[vc_row][vc_column][vc_column_text]
رغم محاولة الدولة ضبط المجال الديني في المغرب، إلا أنها تلاقي مقاومة من طرف فاعلين دينيين رسميين وغير رسميين.
تحميل المقال
مقدمة
في 21 يناير 2020، نظّم العشرات من الأئمة والمرشدين الدينيين وقفة احتجاجية، تلتها مسيرة على طول شارع محمد الخامس وسط العاصمة المغربية الرباط. وكانت مطالب الأئمة المحتجين تهم تحسين أوضاعهم المادية[1].
ردّت الوزارة الوصية على هذه الاحتجاجات، بالحديث عن محرضين قالت إنهم يقفون وراء هذه التحركات، واصفة إياهم بالراسبين في بعض المباريات التي تنظمها الوزارة لتقييم مستوى الأئمة. واتهمت الوزارة المحتجين بمخالفة الظهير المنظم لمهام القيمين الدينيين، والذي ينص على رفع التظلمات إلى لجنة مختصة تابعة للمجلس العلمي الأعلى، عوض الخروج للاحتجاج في الشارع[2].
تمثل هذه الواقعة نموذجا لحدود ضبط الدولة للمجال الديني، لا سيما بعد إطلاق مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني منذ 2004 والذي سعى إلى بسط سيطرة الدولة على المجال الديني باعتباره أداة فعالة لضمان المشروعية السياسية وأيضا لمواجهة معارضي الدولة.
فمنذ تفجيرات الدار البيضاء سنة 2003، أصبح المجال الديني يتصدّر أولويات الدولة، وتجلى ذلك في مؤشرات منها إصدار ترسانة قانونية وميكانيزمات مؤسساتية لضمان السيطرة الكاملة على هذا المجال.
بيد أن هذه السيطرة لم تكن أبدا مطلقة. إذ لم تتمكن السياسات الدينية الرسمية من الحؤول دون خروج الاحتجاجات من داخل بعض المساجد، و”تمرّد” أئمة وخطباء دينيين، وممارسة الإسلاميين المعارضين لمواجهة مباشرة مع السلطات من داخل الحقل الديني.
الدين لله والدولة
يعتبر احتكار المجال الديني أحد الأدوات التي تعتمد عليها المؤسسة الملكية لتثبيت شرعيتها السياسية. فمنذ أول دستور مغربي، صدر عام 1962، أصبح الإسلام دين الدولة، كما أصبح الملك “أميرا للمؤمنين”. وقد استخدم الملك الراحل الحسن الثاني الدين كأداة فعالة في مواجهة “منافسيه” في الأحزاب السياسية، ولتكريس سلطته السياسية.
ولم تشهد هذه المقاربة قطيعة بعد رحيل الملك الحسن الثاني. فمنذ اعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب سنة 1999، عرف المجال الديني تطورا مؤسساتيا مهما، لاسيما بعد تفجيرات الدار البيضاء الإرهابية، يوم 16 ماي 2003، والتي نتج عنها بروز سياسة رسمية جديدة، بات يطلق عليها “إعادة هيكلة الحقل الديني”.
فقد انتقل تعامل الدولة مع المجال الديني، من مقاربة اجتماعية اعتمدت على تحويل المسجد إلى مؤسسة تعليمية يجتمع فيها أبناء الحي لمحاربة الأمية، مما حوّل آلاف المساجد إلى مراكز لمحو أمية أكثر من مليوني مغربية ومغربي[3]، إلى مقاربة أمنية جعلت من محاربة “التطرف” والجماعات الإسلامية المتشددة، أولوية للقائمين على الشأن الديني في المغرب.
ويظهر سعي الدولة إلى التحكم في المجال الديني، في إصدار ترسانة قانونية مهمة، يبرزها التطور اللافت في عدد الظهائر والمراسيم التي تؤطر الحقل الديني، والميزانيات التي تم تخصيصها لإعادة هيكلة الحقل الديني.
ففي أبريل 2004 صدر الظهير الملكي الخاص بإعادة تنظيم المجالس العلمية، والذي جرى تعديله عام 2009 بشكل جعل خريطة جديدة لهذه المجالس، وجعلها تطابق التقسيم الترابي والإداري للمملكة.[4]
كما أصدرت الحكومة في يناير 2005، مرسوما يحدث تعويضات مالية لفائدة أعضاء المجلس العلمي الأعلى ورؤساء وأعضاء المجالس العلمية المحلية وأعضاء فروعها. ونص هذا المرسوم على منح 10 آلاف درهم لأعضاء المجلس العلمي الأعلى ورؤساء المجالس العلمية المحلية، وثلاث آلاف درهم لأعضاء المجالس العلمية المحلية، و1500 درهم لأعضاء فروع المجالس العلمية المحلية[5]
وفي ما يخص الأئمة والمرشدين الدينيين، فقد أصدرت الوزارة المعنية في سنة 2010 الظهير المحدث لمؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيّمين الدينيين، والذي يهدف إلى تحصين القيّمين الدينيين ماديا واجتماعيا[6].
وزيادة في الضبط والتنظيم، صدر في ماي 2014 الظهير الملكي الخاص بتنظيم مهام القيمين الدينيين وتحديد وضعياتهم، والذي سنّ منعا رسميا للممارسة أي “نشاط سياسي أو نقابي أو اتخاذ مواقف سياسية أو نقابية أو القيام بأي عمل من شأنه وقف أو عرقلة أداء الشعائر الدينية، أو الإخلال بشروط الطمأنينة والسكينة والتسامح والإخاء، الواجبة في الأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي”.[7]
جدول يظهر تطوّر ميزانية تسيير وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في 10 سنوات بعد أحداث 2003 الإرهابية
المصدر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية[8].
جدول يظهر تطوّر عدد الظهائر والمراسيم والقرارات في 10 سنوات بعد أحداث 2003 الإرهابية
المصدر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية[9]
إضافة إلى ذلك، تم خلق مؤسسات رسمية لتأطير ومراقبة الحقل الديني، مثل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة، ومؤسسة الأعمال الاجتماعية للأئمة والمرشدين الدينيين. وأصدرت الوزارة الوصية وثائق جديدة توضح الخطاب المسموح به داخل المساجد[10].
وتأكيدا للخلفية الكامنة وراء هذه التطورات، أي إحكام مراقبة الخطاب الديني، بادر وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق في أحد حواراته الصحافية، بمجرد سؤاله عن وضعية القيمين الدينيين، إلى القول إن القيّم الديني والإمام “ليس كأي مستخدم من المستخدمين، فهو ليس فنّيا فقط، بل هو خبير لكنه ملتزم فكريا وخلقيا”.
التزام قال الوزير إنه يربط الإمام بالأمة، “فهو إمام المسجد، وليس المسجد مسجد الإمام، ومن يذكر المسجد يذكر الجماعة، ومن يقول الجماعة يقول الأمة، ومن يذكر الأمة يذكر إمامها الأعظم الذي هو أمير المؤمنين الذي يعتبر الإمام نائبا عنه في المسجد، وبالتالي ليس المسجد ساحة يقول فيها شخص معيّن بصفته إماما أو خطابا ما يريد”[11]
ربيع الفقهاء
بالرغم من محاولات الدولة بسط سيطرتها على المجال الديني، إلا أنها لاقت مقاومة من طرف الأئمة والمرشدين، وأيضا من طرف عموم المواطنين وبعض الحركات الإسلامية. فقد استثمر الأئمة والخطباء أجواء الانفتاح السياسي التي عرفها المغرب سنة 2011، وموجة الاحتجاجات الشعبية التي عرفها المغرب، على غرار باقي المنطقة العربية، وخرجوا للشارع للمطالبة بتحسين أوضاعهم.
ففي شهر يونيو 2011، قام حوالي 2000 إمام بالاحتجاج في قلب العاصمة الرباط، ضد ما اعتبروه تهميشا من طرف الوزارة الوصية للمساجد، وضد ما يعتبرونه تضييقا على الأئمة من طرف وزارتي الأوقاف والداخلية[12].
وفي مقابل بعض التسامح الذي كانت السلطات تبديه في أغلب الاحتجاجات التي عرفتها العاصمة المغربية الرباط سنة 2011، فأن احتجاجات الأئمة قوبلت بقمع قوي من طرف السلطات.
ورغم أن ما قدمته السلطات لتبرير قمع الأئمة المتظاهرين كان هو رغبتها في عدم تسييس المساجد، إلا أن وزارة الأوقاف، عمّمت خطبة رسمية على الخطباء لإلقائها يوم الجمعة 24 يونيو 2011 لحث المصلين على التوجّه إلى مكاتب التصويت على مشروع الدستور الجديد يوم فاتح يوليوز 2011[13]
وكشفت تلك الوقائع المتقاربة زمنيا تناقض موقف السلطة، فمن جهة حثّت الخطباء والأئمة على عدم الخوض في المواضيع السياسية، وفي الوقت نفسه دعتهم إلى الانخراط في الدعاية للمشاركة في الاستفتاء، بل وتوجيه المصلين نحو التصويت بـ”نعم” رغم أن القانون يمنع أية دعاية سواء لـ”نعم” أو “لا”.
ويمكن تفسير هذا التناقض بكون الوزارة الوصية لا تسعى في الراجح إلى تحييد المنبر الديني في المجال السياسي، بقدر ما تحاول جعله في خدمة السياسات الرسمية للدولة.
وأبان سلوك الدولة في الفترة اللاحقة لهذه الاحتجاجات، عن تعاط مزدوج مع المطالب والاحتجاجات التي رفعها الأئمة والخطباء في الشارع أثناء الحراك الشعبي سنة 2011. ففي مقابل حظر الانتماء السياسي والنقابي على الأئمة والخطباء ومنعهم من الاحتجاج، قامت الدولة بتوسيع تدريجي للتغطية الصحية والاجتماعية للقيمين الدينيين، ورفعت الحكومة، في يونيو 2013، من قيمة تعويضات الخطباء والمرشدين الدينيين، عبر تغيير شكل العقد الذي يبرم بين الدولة والأئمة أو المرشدين والمرشدات، وذلك بشملهم بوضع مماثل للنظام المطبق على هيئة المتصرفين 2013[14].
حرية تعبير الأئمة؟
لم يقتصر الاحتجاج القادم من داخل المجال الديني على فئة الأئمة والمرشدين، بل توالت حالات “التمرّد” من جانب بعض الخطباء الذين يخرجون في خطبهم الدينية عن دليل الإمام والخطيب – وهو دليل أعدته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بهدف توحيد التصورات والضوابط التي ينبغي على الإمام والخطيب الالتزام بها داخل المسجد –[15]، وهو ما يؤدي، في بعض الحالات، إلى خروج المصلين للاحتجاج بعد قيام السلطة بعزل بعض الأئمة والخطباء.
فقد لجأت وزارة الأوقاف إلى عزل عدد منهم بسبب تعبيرهم عن آراءهم. وتكشف الإحصائيات الرسمية أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تصدر ما معدله 16 قرارا لتوقيف للأئمة والخطباء في السنة.
ففي العقد الممتد بين 2003 و2012، تم إصدار ما مجموعه 157 قرار توقيف في حق خطباء وأئمة[16]. ولا تخفي الوزارة الوصية خلفياتها السياسية في اتخاذ تلك قرارات، حيث تم توقيف خطيب مسجد “مولينا” بالرباط شهر فبراير 2016، على خلفية خطبة تناول فيها واقعة سياسية في التاريخ الإسلامي تتعلق بالعلاقة مع اليهود[17]. كما تم توقيف خطيب مسجد “النهضة” بمدينة مراكش شهر يونيو 2016 بعد إلقائه خطبة انتقد فيها مهرجان “موازين”[18]، وهو نفس القرار الذي اتخذ قبل ثلاث سنوات والذي قضى توقيف خطيب شهير بمدينة فاس قبل ثلاث سنوات، والذي كان بدوره قد هاجم المهرجان الغنائي في إحدى خطبه[19].
وخلال الفترة التي شهدت حملة مقاطعة شعبية لمنتوجات بعض الشركات الكبرى في ماي 2018، قامت السلطات بتوقيف خطيب مسجد ابراهيم الخليل بحي شماعو بسلا، بسبب “تطرقه” في خطبة جمعة إلى “غلاء الأسعار وعلاقته بحملة مقاطعة عدد من المنتوجات الاستهلاكية”.[20]
وتبرر الوزارة أسباب عزل الخطباء بأسباب أهمها عدم التزام الأئمة بثوابت الأمة، يليها مبرر الخروج عن السياق الشرعي والخوض في الحساسيات السياسية، ثم عدم التزام الحياد في الانتخابات، وأخيرا فقدان الأهلية الشرعية. فيما تعود توقيفات أخرى إلى السلوك الأخلاقي والإدانة القضائية لبعض الأئمة[21].
“عصيان شعبي” بسبب المنبر
تعبّر جل حالات توقيف الأئمة والخطباء، عن حالات “تمرّد” فردي للإمام أو الخطيب ورفض الامتثال للتوجيهات الرسمية، والتي تنتهي باتخاذ قرارات التوقيف. بيد أن “التمرد” يأخذ أحيانا أشكالا جماعية، حيث تكرّرت حالات احتجاجات المصلين مرتين على الأقل في السنوات الأخيرة، واحدة في قلب مدينة فاس والثانية في إحدى قرى قلعة السراغنة ضواحي مراكش.
وتمثل الاحتجاجات التي عرفتها مدينة فاس في دجنبر 2016 أبرز هذه الحالات. فبعد قرار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، توقيف الإمام وخطيب الجمعة بمسجد يوسف بن تاشفين بمدينة فاس، محمد أبياط،[22] خرج مصلون من المسجد محتجين ورافضين أداء الصلاة خلف الخطيب الجديد، مع ما يعنيه ذلك من تمرّد على السلطة الدينية للدولة[23].
أثار هذا الاحتجاج الجماعي للمصلين نقاشات استأثرت باهتمام الرأي العام، مع بروز تفسيرات حاولت إعطاءه بعدا سياسيا لا سيما الاتهامات التي وجّهت لحركة التوحيد والإصلاح بالوقوف وراء هذه الاحتجاجات. لكن الحركة المقربة من حزب العدالة والتنمية، سارعت إلى إصدار بلاغ نفت فيها هذه الاتهامات بالوقوف وراء تلك الاحتجاجات[24]
أما في حالة قرية “أولاد الشيخ” قرب مدينة قلعة السراغنة سنة 2017، فقد أدت احتجاجات المصلين ضد تغيير السلطات الوصية لخطيب المسجد إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن. وقد استمرت احتجاجات لمدة شهرين قاطع خلالها السكان صلاة الجمعة في المسجد المعني. وانتهت هذه الواقعة في المحاكم عندما تمت إدانة 20 شخصا من بينهم نساء بما بين غرامات مالية وسنة حبسا بتهمة مهاجمة قوات الأمن[25]
“الفتنة” في المسجد
بمناسبة الحراك الشعبي الذي عرفته منطقة الريف شمال المغرب، عاش “الإسلام الرسمي” تحديا جديدا بدءا من أكتوبر 2016.
فقد شهدت تلك الاحتجاجات تحولا لافتا في مسارها، بسبب خطبة ألقاها خطيب الجمعة من داخل أحد مساجد الحسيمة يوم 26 ماي 2017، وتحدث فيها عن ضرورة تجنب الفتنة، وهو ما أدى بناصر الزفزافي – وهو أحد قادة الحراك البارزين – إلى الاحتجاج على توظيف المسجد من طرف السلطة وانتقد خطيب الجمعة الذي ألمح إلى اعتبار الحراك الاجتماعي فتنة يجب إخمادها[26].
لقد اعتبر نشطاء حراك الريف خطبة الجمعة هذه بمثابة استفزاز لهم واستغلالا للدين من طرف الدولة بهدف تصفية حسابها مع خصومها السياسيين، وتسخيرا لأماكن العبادة من أجل إخماد حراك اجتماع سلمي و”توظيف المساجد والخطباء في زرع الفتنة وتصفية الحسابات السياسية مع المواطنين”[27].
وتجلى هذا الموقف الاحتجاجي من جانب النشطاء ضد الخطبة الدينية الرسمية، في مقاطعتهم لخطبة الجمعة في الأسبوع الموالي، وأدائهم الصلاة في الشارع العام خارج المساجد الخاضعة لسلطة الدولة[28].
ويؤكد هذا السجال الوظيفة السياسية التي يحتفظ بها الخطاب الديني الرسمي، خاصة خطبة الجمعة، حيث يؤكد الباحث في علم السياسة، محمد شقير، أن “خطبة الجمعة كانت وستبقى في إطار النظام السياسي بالمغرب آلية من آليات تكريس الشرعية السياسية والدينية للملك كأمير للمؤمنين”[29]
فقد اعتبرت الدولة سلوك الزفزافي تدنيسا لقداسة المسجد واتهمته بخلق الفتنة، وذلك من خلال بيان رسمي أصدره الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بمدينة الحسيمة، تضمن قرار اعتقال الزفزافي بمعية مجموعة من الأشخاص، بتهمة عرقلة حرية العبادات داخل مسجد محمد الخامس بالحسيمة[30].
وشكلت هذه الواقعة لحظة فارقة في مسار “حراك الريف”، حيث فجّرت الأوضاع وأطلقت الدولة يد المقاربة الأمنية لتقوم بالاعتقالات والمحاكمات بعد تردد طويل. وكرد فعل على تحرّك السلطات لتوقيف ناصر الزفزافي، أطلق نشطاء حراك الريف دعوات عبر شبكات التواصل الاجتماعي إلى مقاطعة خطبة الجمعة التي ألقيت في الأسبوع الموالي لتلك الخطبة، كتعبير عن رفض استخدامها في وظيفة أمنية. وتكررت دعوات المقاطعة هذه في الأسابيع الموالية، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وإن بوتيرة أقل[31].
معارضة دينية منظمة
إذا كانت جلّ الاحتجاجات المرتبطة بالحقل الديني تتسم بطابع فردي أو تلقائي، فإن الوضع مع جماعة العدل الإحسان مختلف. حيث تتهم هذه الجماعة الإسلامية المعارضة السلطات المغربية بكونها تستهدف الخطباء والأئمة المنتمين أو المقربين منها بقرارات التوقيف والعزل. وتحدّث بيان صادر عن الجماعة صيف 2016، عن تعرّض خطباء مقربين منها لعمليات تضييق وضغط انتهت بالتوقيف وتشمل كل من “تُشَم فيهم رائحة العدل والإحسان”[32].
ورغم تسامح “محدود” للسلطات مع بعض أعضاء الجماعة في مجال التأطير والإمامة الرسميين، إلا أن لعبة شد الحبل بين الطرفين تزداد كلما تعلق الأمر بشعيرة الاعتكاف الرمضاني، ومواكب الاحتفال بالمولد النبوي.
ففي شهر رمضان من كل سنة، تتجدّد المواجهة بين جماعة العدل والإحسان والسلطات، بسبب محاولة الجماعة تنظيم اعتكافات في بعض المساجد خلال شهر رمضان، ما يدفع الدولة إلى استخدام القوة العمومية لطرد المصلّين[33]، وهو ما توظّفه الجماعة بشكل مكثف لإحراج الدولة وإظهارها في موقف المعيق لممارسة الشعائر الدينية.
وفي الوقت الذي تدفع الجماعة بالحق الدستوري والديني في ممارسة الاعتكاف الديني، تصرّ الدولة على رسم حدود هذه الممارسة. وحرصا منه على تبرئة الدولة من تهمة إعاقة الشعائر الدينية، يصرّ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، على أن الأمر لا يتعلّق بمنع، بل بوضع “ضوابط وشروط معينة تؤطر هذه الممارسة الدينية”[34]، ويشدّد الوزير على أن القول بمنع الاعتكاف مجرّد “كذب وافتراء”، وأن “الاعتكاف يجب أن يكون من أجل الاعتكاف وليس لشيء آخر”[35] في إشارة منه إلى استغلال الجماعة للاعتكاف لأغراض سياسية محتملة.
وتمثل ذكرى المولد النبوي مناسبة أخرى للتوتر بين الدولة وجماعة العدل والإحسان. إذ تعمل الجماعة على تنظيم مواكب جماعية في بعض المدن للاحتفال بالذكرى. إلا أن السلطات في الغالب تمنع هذه الأنشطة، وهو ما تصوره الجماعة على أنه تدخل للدولة لمنع ممارسة الشعائر الدينية. وتعمل الجماعة على توثيق الحالات التي جرى فيها منع مواكب الاحتفال بالمولد النبوي، وتنشر أشرطة مصوّرة لمشاهد تدخّل القوات العمومية ضد المحتفلين المسالمين، ما يضع السلطات في موقف يناقض ما تبرّر به احتكارها السلطة الدينية، أي ضمان حرية ممارسة الشعائر[36].
خاتمة
لقد نجحت سياسات إعادة هيكلة الحقل الديني بشكل كبير في تحييد المخاطر الأمنية المرتبطة بالفكر المتطرّف وتسلله إلى المساجد. إلا أن توالي أحداث التمرّد والعصيان ضد التوجهات الدينية الرسمية، سواء على المستوى الفردي أو الاحتجاج الشعبي، تكشف حدود هذه السياسات في فرض الاحتكار المطلق للخطاب الديني.
وقد أدى استغلال الدولة للمساجد لتمرير مواقفها وقراراتها الرسمية إلى نتائج عكسية، حيث تسببت بعض الخطب الدينية الرسمية في إشعال فتيل الاحتجاجات.
كما أن أشكال الاحتجاج التي كانت تقتصر فقط على إبراز المطالب الاجتماعية والاقتصادية، امتدت إلى المجال الديني، وأصبحت مقولة “الإسلام الرسمي” موضع تساؤل، وهو ما يشكل تمردا ينبئ بحدوث تحولات مستقبلية في تنامي الوعي المجتمعي بأن التدبير الرسمي للمجال الديني بشكل سلطوي قد يؤدي إلى خلق توترات بين المؤمنين.
من هنا، فإن منع استغلال الدين لأغراض سياسية وانتخابية، ينبغي أن يرافقه حياد الدولة التام في التعاطي مع الحقل الديني، وعدم سقوطها في توظيفه كأداة لكسب الصراع السياسي، باعتبارها ضامنا لحرية ممارسة الشعائر والطقوس الدينية لجميع المؤمنين، المسلمين منهم وغير المسلمين.
الهوامش
[1] تقرير إخباري مرفق بمقطع فيديو يغطي الوقفة لحساب موقع “طنجة7” نشر يوم 22 يناير 2020:
[2] بلاغ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية نشرته جريدة “الصباح” في عدد يوم 23 يناير 2020:
https://assabah.ma/443126.html
[3] تقرير حول حصيلة برنامج محو الأمية في المساجد، نشره موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية يوم 16 أكتوبر 2017:
[4]نص هذا الظهير كما تضمنه العدد 5210 من الجريدة الرسمية:
http://www.sgg.gov.ma/BO/Ar/2004/BO_5210_AR.pdf
[5] نص المرسوم كما تضمنه العدد 5287 من الجريدة الرسمية ونشره الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية:
http://www.habous.gov.ma/images/abook_file/05-2005-2.04.890-5287-382.pdf
[6]الظهير المحدث لمؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيّمين الدينيين، في الموقع الرسمي للمؤسسة:
http://alqayyim.com/gouvernancedelafondation/nossos-tandimya/dahir-fondation
[7] الظهير الملكي الخاص بتنظيم مهام القيمين الدينيين، الجريدة الرسمية، العدد 6268
http://www.sgg.gov.ma/BO/Ar/2014/BO_6268_Ar.pdf
[8] تقرير حول ميزانية تسيير وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بين 2003 و2012، نشرته الوزارة عبر موقعها الرسمي:
[9] تقرير حول حصيلة التشريع والدراسات القانونية نشره موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في 9 أكتوبر 2015:
[10] تقرير حول تطور النشاط التشريعي الخاص بالحقل الديني بين 2003 و2016 نشره موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في 20 شتنبر 2017:
[11] حوار لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق مع موقع “هسبريس” الإلكتروني، نُشر تسجيله المصوّر يوم 17 نونبر 2017
https://www.youtube.com/watch?v=aDvRvD6Lfzg
[12] تقرير لجريدة “أخبارنا” حول رفض أئمة إلقاء الخطبة الرسمية بعد تعرضهم لـ”القمع”:
http://www.akhbarona.com/society/6719.htm l
[13] تقرير لموقع “هسبريس” حول اجتماع لجنة برلمانية ناقش فيه وزير الأوقاف خطبة الدعوة إلى التصويت على الدستور:
https://www.hespress.com/politique/50417.html
[14] “الحكومة تُقرّر الزيادة في أجُور الأئمّة والمُرشِدين”، تقرير إخباري لموقع “هسبريس” نشر بتاريخ 27 يونيو 2013:
https://www.hespress.com/societe/82691.html
[15]. للمزيد من التفاصيل، أنظر موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية:
[16] بلاغ الوزارة كما نشره موقع “كود” الإلكتروني:
https://www.maghress.com/goud/22281
[17] “الوزير الصبيحي يتسبب في عزل خطيب مسجد مولينا في الرباط”، تقرير إخباري لموقع “اليوم24″، نشر بتاريخ 12 فبراير 2016:
http ://www.alyaoum24.com/510341.html
[18] “مرة أخرى وزارة التوفيق.. توقف خطيبا بمراكش بسبب مهرجان موازين”، تقرير إخباري نشره موقع “هوية بريس” بتاريخ 10 يونيو 2016:
[19] “توقيف خطيب بفاس بسبب حديثه عن موازين”، تقرير إخباري نشره موقع حركة التوحيد والإصلاح بتاريخ 17 يونيو 2013 :http://alislah.ma/oldwebsite/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9/2013-06-17-10-30-00
[20] “بسبب المقاطعة.. توقيف خطيب جمعة بسلا وابنه يكشف التفاصيل”، تقرير إخباري بموقع “العمق المغربي”. إقرأ المزيد عبر الرابط:
https://al3omk.com/293365.html
[21] بلاغ لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، تفاصيله في هذا التقرير لموقع “أخبارنا”:
https://www.akhbarona.com/national/33387.html
[22] رابط شريط الخطبة التي تم توقيف الإمام محمد أبياط على إثرها:
https://www.youtube.com/watch?v=Aka12hBXrr0
[23] تصريح للإمام أبياط حول توقيفه:
[24] نص البيان كما نشره الموقع الرسمي لحركة التوحيد والإصلاح يوم 2 أكتوبر 2016:
[25] قصاصة لوكالة أنباء الأناضول حول هذه الأحكام، نشرها موقع “الرأي” بتاريخ 13 يونيو 2017:
[26] شريط يوثق احتجاج ناصر الزفزافي داخل المسجد بعد خطبة الجمعة ليوم 26 ماي 2017:
https://www.youtube.com/watch?v=CRgc45bwB94
[27] ” الجماعة تتضامن مع معتقلي الحراك وتستنكر توظيف الخطباء في زرع الفتنة”، تقرير إخباري لموقع “اليوم24″، التفاصيل في الرابط التالي:
https://www.alyaoum24.com/884711.html
[28] “حراك الحسيمة.. نشطاء يقاطعون خطبة الجمعة احتجاجا على مضامينها تقرير لموقع شبكة “سي إن إن” الأمريكية، النسخة العربية، نشر بتاريخ 2 يونيو 2017، التفاصيل عبر الرابط التالي:
https://arabic.cnn.com/world/2017/06/02/friday-prayer-houceima-morocco
[28] “خطبة الجمعة بالمغرب.. دين، سياسة وأشياء أخرى”، تقرير لموقع “أصوات مغاربية” الأمريكي، نشر بتاريخ 28 فبراير 2018. تفاصيله في الرابط التالي:
https://www.maghrebvoices.com/a/morocco-friday-sermon/420917.html
[28] “بعد الاحتجاج في مسجد بالحسيمة.. وكيل الملك يأمر باعتقال الزفزافي”، تقرير إخباري نشره موقع “هسبريس” يوم 26 ماي 2017. نصه الكامل عبر الرابط التالي:
https://www.hespress.com/societe/351714.html
[29] “خطبة الجمعة بالمغرب.. دين، سياسة وأشياء أخرى”، موقف “أصوات مغاربية”، مرجع سابق
https://www.maghrebvoices.com/a/morocco-friday-sermon/420917.html
[30] “بعد الاحتجاج في مسجد بالحسيمة .. وكيل الملك يأمر باعتقال الزفزافي”، موقع “عسبريس”، مرجع سابق: https://www.hespress.com/societe/351714.html
[31] موقع “نون بريس”: http://cutt.us/NHGmk
[32] بيان لجماعة العدل والاحسان، نشر بتاريخ 3 دجنبر 2006، يتنضمن لائحة أئمة موقوفين:
[33] “لماذا تمنع السلطات المغربية “العدل والإحسان” من الاعتكاف؟”، تقرير إخباري لموقع “الجزيرة” نشر في يونيو 2018: https://tinyurl.com/vn2dgur
[34] “إسلاميون ينتقدون منع الاعتكاف بالمغرب.. وزير: هذه شروطنا”، تقرير لموقع “أصوات مغاربية” التابع للخارجية الأمريكية، نشر بتاريخ 10 يونيو 2018:
https://www.maghrebvoices.com/a/441241.html
[35] “لم نمنع الاعتكاف في المساجد ومن يكذب علينا فالله يتولاه”، تصريحات أدلى بها وزير الأوقاف لموقع “اليوم24″، بتاريخ 12 يوليوز 2015:
https://www.alyaoum24.com/331422.html
[36] تقرير لموقع جماعة العدل والإحسان حول منع مواكب الاحتفال بالمولد النبوي في نونبر 2019:
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]
يونس مسكين
صحافي، خريج المعهد العالي للإعلام والاتصال، متخصص في الشأن السياسي المغربي. واكب جل الأحداث الكبرى التي عرفها المغرب في العقدين الماضيين، وله عدة كتابات وتحليلات وتحقيقات ميدانية وحوارات مع شخصيات فاعلة في مراكز القرار.