[vc_row][vc_column][vc_column_text]
تمثل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة إحدى أدوات السياسة الدينية للمغرب في إفريقيا جنوب الصحراء. إلا أنها لا زالت تعاني مجموعة من الصعوبات التقنية والتحديات الميدانية. فهل يستطيع المغرب تجاوز هذه الصعوبات؟
تحميل المقال
ملخص
يمثل إنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة خطوة استراتيجية متقدمة في تنزيل وترجمة الرؤية المغربية للعمل الديني في إفريقيا جنوب الصحراء. بقدر ما يعكس الإيقاع المتأني لإرساء هياكل المؤسسة وتوسيع خريطة فروعها الخارجية، الصبغة الطموحة لهذه الرؤية، بقدر ما يكشف أيضا بالمقابل عن مجموعة من الصعوبات التقنية والتحديات الميدانية.
مقدمة
تعتبر مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة أحد أهم الأدوات المؤسساتية التي تم إنشاؤها في السنوات الأخيرة لإعطاء دفعة جديدة للحضور الديني المغربي في إفريقيا جنوب الصحراء. فقد أكدّ الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة تنصيب المجلس الأعلى للمؤسسة سنة 2016، على أن هذه المبادرة “تجسّد عمق الأواصر الروحية العريقة التي ظلت تربط الشعوب الإفريقية جنوب الصحراء بملك المغرب أمير المؤمنين، ولما يجمعنا بها من وحدة العقيدة والمذهب، والتراث الحضاري المشترك.”[i] بهذا المعنى، تسعى المؤسسة لاستثمار الرصيد الثقافي والتاريخي الذي يربط المغرب بإفريقيا الغربية بهدف الحصول على المقبولية والدعم من طرف شريحة واسعة من النخب الدينية والسياسية بتلك البلدان الإفريقية. فالتاريخ المشترك وواقع النسيج الديني المحلي، يعطي للمغرب وضعا إمتيازيا إزاء مشاريع دينية أخرى والتي رغم كل الإمكانات والموارد المادية الضخمة المتوفرة لها إلا أنه غالبا ما ينظر إليها كمبادرات خارجية “مستوردة”.[ii]
لكن بعد مرور خمس سنوات على الإعلان عن إنشاء المؤسسة، لا زالت المؤسسة تواجه عددا من الصعوبات والإكراهات الميدانية التي تهم أساسا إرساء هياكل المؤسسة وتفعيل مخططاتها وبرامج عملها، كما ظهرت أيضا تحديات مرتبطة بنوعية الخطاب الذي تعتمده بهدف توسيع دائرة إشعاعها وجاذبيتها وتعزيز تنافسيتها الإقليمية.
تحاول هذه الورقة رصد الدينامية الجديدة للعمل الديني بإفريقيا من خلال دراسة حالة مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. ورغم أنه من المبكر تقييم أداء مؤسسة لا زالت في بدايتها، إلا أن أهمية هذه الحالة تكمن في كونها تقدم مدخلا خصبا لفهم الدينامية الجديدة التي يشهدها العمل الديني المغربي بإفريقيا واستشراف آفاقه المستقبلية في ضوء الإكراهات والتحديات التي يواجهها. فالسياسة الدينية للمغرب بإفريقيا، مثلها مثل باقي السياسات العمومية الأخرى، لا تتم دائما وفق مسار خطي مستقيم بقدر ما ينحو مسارا تجريبيا لولبيا، تمليه إكراهات ومعطيات الواقع الميداني المعقد الذي تشتغل في إطاره هذه السياسة، والأهم من ذلك، تحدده قدرة صانع القرار السياسي وكفاءة الفاعل المؤسسي في التعاطي الفعّال والناجع مع معطيات هذا الواقع وتجاوز إكراهاته في حدود الموارد والإمكانات المتاحة. تسعى هذه الورقة إلى اختبار هذه الخلاصة من خلال دراسة حالة مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، باعتبارها تشكل مفتاحا مهما لاستكشاف ورصد الكثير من التحديات العملية والمشاكل التقنية التي تتخلل تنزيل وترجمة جانب جوهري من السياسة الإفريقية للمغرب على الأرض.
من رابطة علماء المغرب والسينغال إلى مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة
تشكل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة خطوة متقدمة تجسّد بشكل عملي وواضح طموح المغرب توسيع نفوذه الثقافي والديني في غرب إفريقيا، وهو نفس الطموح الذي تحكّم في إنشاء رابطة علماء المغرب والسينغال سنة 1986. شكّلت الرابطة النواة الأولى لمأسسة وتنشيط العلاقات الروحية للمغرب ودول القارة الإفريقية، عبر بوابة السينغال، وذلك في سياق إيجاد بدائل لكسر عزلة المغرب قاريا بعد انسحاب المملكة من منظمة الاتحاد الإفريقي سنة 1984. بيد أن عملية تفعيل نشاط الرابطة شابته عدة مشاكل على مستوى التنظيم والتسيير. فضلا عن أن الرابطة لم يسبق لها أبدا أن عقدت الجمع العام العادي منذ جمعها التأسيسي سنة 1986، فتدبير شؤون الرابطة لم يكن محط رضى السينغاليين أنفسهم. فهم ينتقدون تحديدا احتكار تسييرها من طرف أمينها العام الراحل الشيخ إبراهيم محمود جوب والأسرة الدينية التي ينتمي إليها، أسرة نياس التابعة للطريقة التيجانية بكولخ، مقابل إقصاء الأسر الدينية الأخرى من الإمكانات والموارد (المتمثلة أساسا في المنح الدراسية) الموضوعة تحت تصرف الرابطة[iii]. بهذا المعنى، فالرابطة لم تنجح في استيعاب كافة المكونات الدينية بالسينغال فبالأحرى أن يتسع نشاطها ليشمل كافة دول غرب إفريقيا. ولعل هذا سبب من الأسباب التي تفسّر ضعف أداء الرابطة وتواضع حصيلتها وكيف انتهى بها الأمر إلى الجمود الفعلي بعد عدة سنوات فقط من انطلاقها.
ونتيجة لذلك، بدأت السلطات المغربية تفكر في إنشاء مؤسسة جديدة تتجاوز الهفوات والمشاكل التي صاحبت عمل الرابطة. تولدت هذه الفكرة لدى صانع القرار المغربي عام 2010 تحديدا. وكان التقدير الرسمي في البداية أن تحل المؤسسة مكان الرابطة وتشمل دول غرب إفريقيا فقط، وقد تم فعلا إعداد مسودة أولية للظهير الخاص بتلك المؤسسة المحدودة مجاليا.[iv] لكنه نتيجة للزخم القوي الذي صاحب الزيارات الملكية لعدة بلدان إفريقية، خلال سنتي 2013-2014، وعلى خلفية سلسلة الأزمات والتهديدات الأمنية التي أصبحت مطروحة على دول منطقة الساحل، سيتم توسيع نطاق المؤسسة لتشمل كافة دول القارة[v].
يتجلى الفارق الجوهري بين المؤسسة والرابطة في طبيعة الرهانات السياسية والمرامي الجيوستراتيجية التي تحدد أفق كل هيئة على حدة. فالرهان المركزي من وراء إطلاق المؤسسة هو التعبئة وتوحيد الجهود في إطار مؤسساتي رسمي للتعاون بين علماء المغرب ونظرائهم بباقي الدول الإفريقية، بما يسمح على المديين المتوسط والبعيد، ببناء جبهة دينية عابرة للحدود لرعاية “الأمن الروحي” ومحاربة التطرف، لا تقتصر على دول إفريقيا الغربية فقط، وهو السقف الذي حدّد طموح الرابطة من قبل، بل تتسع لتشمل كافة دول القارة.
لا يخفى الأفق السياسي للمبادرة الجديدة والسياق التنافسي الذي تتحرك فيه، حيث تتواجد مرجعيات روحية تحرّكها طموحات وأجندات تختلف باختلاف الدول والقوى الاقليمية التي تمثلها تلك المرجعيات.[vi] يراهن المغرب، مع استعادته لمقعده داخل الاتحاد الإفريقي سنة 2017، على أن تشكّل المؤسسة قناة للترويج لنموذجه الديني داخل القارة الإفريقية، وفي نفس الوقت هيئة مرجعية تجسد وتمأسس الولاء الروحي لإمارة المؤمنين وتوسّع امتداداتها وشبكات النخب الدينية المرتبطة بها بإفريقيا.
إن طبيعة الأهداف وحجم الإنتظارات الملقاة على المؤسسة يجعلها أكثر من مجرد هيئة تنفيذية على غرار مؤسسات دينية أخرى. فتماشيا مع فلسفة التخصص والنمو البيروقراطي التي تهندس مخطط إعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب[vii]، تتجه المؤسسة إلى أن التحوّل تدريجيا الى جهاز مؤسساتي محوري قائم بذاته، على شاكلة الرابطة المحمدية للعلماء، تشتغل ضمن أفق استراتيجي بعيد المدى، إذ من المرجح انها هي من سيضطلع مستقبلا بالإشراف المباشر ومواكبة تنفيذ هذه السياسة وإيجاد قاعدة شعبية تطعمّها من تحت. فرغم الدور المهم الذي تضطلع به حاليا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في رعاية عملية إرساء أركان المؤسسة ومدّها مؤقتا بالموارد المالية والدعم اللازم لتسييرها، الأمر الذي يبرّر ربما تعيين وزير الأوقاف “رئيسا منتدبا” للمؤسسة- بصفته الشخصية وليس الحكومية-، فالأخيرة مدعوة آجلا أم عاجلا إلى الاستقلال بذاتها كمؤسسة لها “شخصية اعتبارية”، كما ينص الظهير المؤسس، تسحب تدريجيا العديد من المهام والاختصاصات الموكولة في الأصل لمديرية الشؤون الإدارية والتعاون الدولي بوزارة الأوقاف.
يتيح تتبع عملية إرساء أركان المؤسسة مؤشرا مهما لقياس قدرتها على التحرك والفعل في واقع ميداني معقد، تحكمه سياقات سياسية وأمنية ضاغطة وتتخلله مشاكل تقنية وعملية بالغة الصعوبة. فطريقة التعامل مع تلك التحديات وتجاوز الصعوبات يمثل السؤال المفتاحي والمدخل الأهم لاستكشاف ليس فقط أداءها وتأثيرها، بل وأيضا قياس فعالية جوانب مهمة من السياسة الدينية الإفريقية ككل وتقييم نجاعتها الميدانية في تنزيل وترجمة الرؤية والأهداف المرسومة لها على الأرض.
مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة: وثيرة تأسيسية متباطئة
تمّ خلق مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في ظل مناخ إقليمي مضطرب يطبعه تنامي القلاقل السياسية والأمنية في منطقتي شمال إفريقيا والساحل جنوب الصحراء. كان يفترض أن يشكل هذا السياق الإقليمي الضاغط حافزا وفرصة لتسريع إرساء أركان المؤسسة وتفعيل فروعها، لكن إلى حدود دجنبر 2019، نسجِّل تباطؤ وارتباك واضحين في تفعيل هياكل المؤسسة وتنشيط عملها.
في الواقع، هناك تفسيران محتملان لهذا البطء في الارساء المؤسساتي للمؤسسة: التفسير الأول، وتتبنّاه الجهات الرسمية، يدفع بفكرة أن مؤسسة دينية كبرى، بحجم مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، تحمل على عاتقها رهانات ومرامي واسعة وطموحة تشمل القارة ككل، يستلزم التهيؤ الجيد والإعداد المتأني للشروط والترتيبات الضرورية من أجل تثبيت أركانها على الأرض. فما قد يراه البعض ارتباكاً شاب عملية التأسيس، هو، وفق هذه القراءة، ليس سوى نوع من التأني والترو تقتضيه “حكمة التدرج والتجريب”.[viii] فقد حرص أصحاب المبادرة على أن يكون إطلاق المؤسسة مسبوقا بعمل تشاركي واستشارة واسعة مع نخبة من العلماء الأفارقة تم تجسيدها من خلال العديد من الاجتماعات التشاورية واللقاءات التحضيرية والتواصلية التي كانت فرصة لتبادل الرأي، وإجراء مشاورات وجلسات للعصف الذهني، وتجميع المقترحات ودراستها قبل الشروع في إعداد مخططات العمل وبرامج العمل. فضلا عن ذلك، ينبغي الانتباه إلى أن هذه المرحلة التأسيسية، والتي تمتد إلى حدود نهاية سنة 2019، شهدت تنظيم عدة ندوات وأيام تواصلية شكلت فرصة للتواصل بين أعضاء المؤسسة وتوضيح الرؤى ورسم الخطط حول بعض الموضوعات المحورية والمفاهيم المرجعية ومنهجيات العمل في أفق الإعداد للمرحلة المقبلة. ولعل الرسالة المهمة التي كان ينشدها أصحاب المبادرة هي أن “المؤسسة تمثل الجميع”. فمخططات وبرامج عملها هي ثمرة اقتراحات علماء يمثلون عدد من الدول الإفريقية، والمغرب في نهاية المطاف “ليس إلا مبادرا ومدعما” لإحداث “جسر اتصال”[ix] بين هؤلاء العلماء. وبهذا المعنى يمكن أن نفهم الصفة المميزة للمجلس الأعلى باعتباره أعلى سلطة تقريرية بالمؤسسة والتي من ضمن صلاحياتها تحديد التوجهات العامة للمؤسسة ودراسة برنامجها السنوي والمصادقة عليه.[x]
بالمقابل، هناك تفسير ثاني يرى أن هذا التباطؤ يعبر عن مأزق في الرؤية وارتباك في التنفيذ. فالمؤسسة كان من المفروض أن تكون قد استفادت من الإرث والأخطاء التي شاب تفعيل رابطة علماء المغرب والسينغال طيلة الثلاثين سنة من عمرها والذي انتهى بها إلى الجمود سنوات طويلة قبل موت أمينها العام السابق، كما سبقت الإشارة، لكن الذي وقع هو الدخول في مسار تأسيسي بطيء ومرتبك استغرق حوالي خمس سنوات، تخللته العديد من الاشكالات والعيوب ذات الطبيعة القانونية والاجرائية التي يُخشى أن تؤثر سلبا في تحقيق الأهداف والانتظارات المأمولة منها. ففي فاتح يونيو 2015، انعقد اجتماع تمهيدي للتعريف بالمشروع بالرباط حضره علماء من عشرين بلدا إفريقيا. وبعد صدور الظهير المؤسس للمؤسسة بتاريخ 24 يونيو، سيتم تنظيم مراسم “حفل الإعلان” عن إحداثها في الشهر الموالي خلال رمضان سنة 2015. وبعد مرور سنة بأكملها، جرى تنظيم “حفل تنصيب” المجلس الأعلى للمؤسسة أمام الملك، بجامع القرويين بفاس، في 14 يونيو 2016. والمثير هو أن ذلك الجمع، انفض مباشرة بعد الاستقبال الملكي دون أن يتسنى لأعضاء المجلس الأعلى، وهو الهيئة المقررة الأولى للمؤسسة، والذي كان يتألف آنذاك من 120 عضوا، عقد أي اجتماع للنقاش وتدارس سبل تفعيل عمل المؤسسة واستكمال هيكلتها وخطة عملها. وكان علينا الانتظار إلى غاية دجنبر 2017 لكي يتم عقد الاجتماع الأول للمجلس، وهو الاجتماع الذي سيتم المصادقة فيه على أول برنامج عمل للمؤسسة برسم سنة 2018.
أما بالنسبة للفروع، فرغم الإعلان عن تدشين حوالي 32 فرع للمؤسسة، الا أن إيقاع عمل هذه الفروع لا زال ضعيفا. فحصيلة أنشطتها لا يتجاوز تنظيم نشاط واحد أو إثنين في السنة، وهو غالبا لا يزيد عن الاشراف على مسابقة قرآنية أو تنظيم ندوة علمية.
عموما، كلا القراءتين تنطوي على قدر من الصحة والوجاهة. فالتأني مطلوب، لكن وثيرة العمل بطيئة جدا، مما يعكس نوع من الارتباك والعجز في المضي قدما في المسار المرسوم للمؤسسة. والمؤكد هو أن الدورة الثالثة للمجلس الأعلى للمؤسسة، الذي انعقدت في فاس بتاريخ 17-18 دجنبر 2019، وحضرها 357 عضوا يمثلون فروع المؤسسة، شكّلت حدثا لافتا من حيث مضامين الكلمة التوجيهية للرئيس المنتدب، وأيضا من حيث طبيعة المخرجات والتوصيات الصادرة عنها، لاسيما التأكيد على أنه بعد مرور حوالي خمس سنوات على خلق المؤسسة، ستشكل سنة 2020 نقطة الانطلاقة الفعلية للمرور إلى الإنجاز أو “التمكين” بتعبير الرئيس المنتدب للمؤسسة[xi].
أربع تحديات لتفعيل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة
يقدم السياق الإقليمي الراهن، والذي يتميز بتراجع حجم الدعم المادي والإعانات المتدفقة لفائدة بعض المشاريع الدينية بالمنطقة[xii]، مقابل تزايد الوعي بأهمية الحفاظ على أنماط التدين ومعتقدات الإسلام المحلي، يقدم فرصة مواتية للمغرب لطرح تجربته كنموذج ديني بديل يسهم في جهود نشر السلم والأمن والاستقرار في المنطقة.
بالنظر لحجم الانتظارات والرهانات الاستراتيجية المعقودة على المؤسسة في إسناد ودعم السياسة الإفريقية للمملكة، هناك أربعة تحديات رئيسية على الأقل تواجه المؤسسة في المرحلة الراهنة من أجل انطلاقة حقيقية وجادة. ترتبط هذه التحديات بطبيعة الرؤية المرجعية، والإطار القانوني لتأسيس الفروع، ومدى توفر المؤسسة الأم على القدرات المادية والبشرية الملائمة.
على مستوى الرؤية: سردية “الثوابت المشتركة” وقدرتها على استيعاب واقع ديني –ثقافي تعددي
تحمل المؤسسة اسم ملك المغرب. فقد أٌنشئت بقرار سيادي منه ويتم تسيرها تحت رعايته وإشرافه الفعلي والمباشر. تجسد المؤسسة المرجعية الروحية لإمارة المؤمنين، كما سبقت الإشارة، ويراهن عليها كثيرا كقناة لمأسسة هذه المرجعية وتوسيع إشعاعها الديني بإفريقيا. تنطلق فكرة المؤسسة ورؤيتها من أرضية وعمق الروابط التاريخية والدينية التي تجمع المغرب بالعديد من البلدان، كما تستثمر أيضا خصوصية البناء السياسي والمعطى الدستوري الذي يؤطر منظومة الحكم بإفريقيا جنوب الصحراء، والذي يشدد على مبدأ علمانية الدولة[xiii] وترك الشأن الديني للجماعات والطوائف الدينية تدبّره داخليا وفق عاداتها واختياراتها.[xiv]
لقد قام المغرب باستثمار هذا المعطى وجرى التطبيع معه خلال الجولات الملكية التي قام بها الملك لإفريقيا خلال السنوات الأخيرة، لا سيما خلال صلوات الجمعة التي أداها الملك بمجموعة من البلدان وكذا الاستقبال الرسمي الذي جمع الملك بالعديد من شيوخ الطرق الصوفية والزعامات الدينية بتلك البلدان[xv]. إذن في هذا السياق، تم خلق المؤسسة كإطار يجسد هذه الزعامة الروحية ويغذي رمزيتها من خلال استيعاب النخب الدينية من العلماء باعتبارهم “ضمير الأمة”، “الحماة لتراث بلدانهم وثوابتها”،[xvi] و”حراس الثغور المعنوية” المنوط بهم تمنيع الإنسان الإفريقي وتنمية قدراته الروحية.[xvii] لا بد من التذكير بالدور المهم الذي لعبته الدروس الحسنية في تعزيز هذا الارتباط منذ مطلع الثمانينات، لكن الطابع الموسمي لتلك الدروس ونخبويتها والسمة المغلقة لفضاء اشتغالها، لم تكن لتمنح هذا الارتباط والعلاقة الرمزية التأثير الملموس والاستدامة المطلوبة.
فإذا كان العلاقة بين إمارة المؤمنين والطرق الصوفية محكومة ببعد تاريخي ورباط عقدي مع بعضها، كما هو الحال بالنسبة للتجانية مثلا، فالارتباط بين إمارة المؤمنين وعلماء افريقيا، وفق الخطاب الرسمي، يجد معناه الحقيقي في إطار مبادئ السياسة الشرعية التي تشدد على التمسك بالإمامة العظمى كضرورة لازمة لحفظ وحماية “كليات الدين”، ومن ضمنها حفظ “السلم الروحي” للأمة. وفي إطار هذا المنطق تحديدا، الذي يمنح غطاء شرعيا لهذا الارتباط، يتم تقديم إمارة المؤمنين بأنها “كفيلة بتحصين إفريقيا من التطرف والإرهاب”[xviii]، وذلك بالنظر للإسهام الذي يمكن أن تقدمه على مستوى حفظ وتحصين الثوابت الدينية المشتركة التي تشكل أساس الهوية الإفريقية.
مفهوم “الثوابت المشتركة”، بالطريقة التي يُنظّر لها مغربيا، يطرح تناقضات جوهرية وتنازع منطقين مختلفين بالنسبة لمؤسسة تقترح مرجعية عقدية ومذهبية تشمل القارة بأكملها. تحيل تلك الثوابت مبدئيا على الاختيارات المتعارف عليها التي يتأسس عليها النموذج الديني المغربي بمكوناتها الثلاثة المتمثلة في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني.
على مستوى دول غرب إفريقيا، لا تطرح هذه الاختيارات العقدية والمذهبية إشكالات كبيرة لكونها تتقاسم مع المملكة في الثوابت نفسها. لكن بمجرد الاتجاه شرق القارة أو وسطها أو جنوبها، نصبح أمام واقع ديني مختلف تؤثثه اتجاهات دينية ومذهبية وعرقية متنوعة مختلفة تماما عن تلك السائدة شمال القارة وغربها.[xix] استحضارا لهذا الواقع التعددي، برز منطق آخر يدفع في اتجاه ضرورة انفتاح المؤسسة واجتهادها في ملائمة مرجعتيها في إطار رؤية مجالية مرنة يمكنها من استيعاب هذا الواقع التعددي ويضمن لها حضور قوي وفاعل يغطي دول القارة ككل.
لمسنا الوعي بحاجة المؤسسة إلى تبنّي خطاب منفتح أكثر مرونة، يتجاوز نسبيا المنطق المغلق لسردية الثوابت، خلال الدورات التواصلية التي عقدتها المؤسسة خلال سنة 2018. والمسألة نفسها عبّر عنها صراحة الأمين العام للمؤسسة نفسه في كلمته الافتتاحية لندوة “الثوابت الدينية المشتركة: أسس الهوية الإفريقية” في بريتوريا، جنوب إفريقيا، في يونيو 2019، حيث جرى التأكيد على معاني “التعددية” المرتبطة بالانتماء العرقي والثقافي والديني وقيم “الحوار” و”التسامح” و”احترام الأخر”، كما تم ابراز “المرجعية الأخلاقية” باعتبارها القاسم المشترك لتدبير الاختلاف بين الثقافات المختلفة[xx]. الأهم من ذلك، شهدنا تحوير نوعي، بالغ الأهمية، في مضمون “الثوابت المشتركة” عكسته توصية فريدة صادرة عن الدورة العادية الأولى للمجلس الأعلى للمؤسسة تؤكد بأن “المشترك الواجب بين أعضاء المؤسسة هو العقيدة الأشعرية، وأن المشترك المندوب هو التصوف السني، أما المذهب الفقهي فلكل اتباع ما درج عليه أهله من اختيار.”[xxi]
الأكثر من ذلك، سجّلنا انفتاحا ملحوظا على هذه التعددية على مستوى تشكيل بعض الفروع الخارجية للمؤسسة، حتى من داخل غرب إفريقيا نفسها. طبعا هناك بعض الفروع التي جرى تشكيلها بمنطق مغلق يعكس ويكرّس حضور الأسر والطرق الصوفية المهيمنة (التجانية والمريدية في حالة الفرع السينغالي مثلا). بالمقابل، هناك فروع أخرى وضع على رأسها وأستقطب لعضويتها شخصيات علمية من حساسيات عقدية ومذهبية لا تطابق بالضرورة الثوابت الثلاثة المشهورة بقدر ما تم استحضار معيار أخر، أكثر براغماتية، والذي يتمثل في الحضور الوازن والموقع والنفوذ الذي يتمتع به الشخص داخل أجهزة الدولة (بوركينافاسو والسودان)، وأيضا قدرته على خلق التوافق وضمان التوازنات بين جميع مكونات الحقل الإسلامي في تلك البلدان (مالي). وفي حالات أخرى، وجدنا أن رئاسة الفرع تسند لشخصية دينية وازنة هي نفسها التي ترأس المجلس الإسلامي الأعلى في بلدانها، وهو الأمر الذي نجده بالنسبة لرؤساء فروع المؤسسة بدول الغابون، غانا، غامبيا، بوركينافاسو، تشاد، الصومال، وتانزانيا.
تشير المعطيات أعلاه إلى أن المؤسسة هي بصدد إرساء منطق يختلف إلى حد كبير عن ذاك الذي يؤطر العلاقة بين الملكية والمشيخات الصوفية[xxii]، وهي علاقة تاريخية لها أدواتها وإطاراتها الخاصة بها. يشكل ذلك في الواقع نقلة نوعية على الأقل على مستوى السردية التي يقدم بها الاسلام المغربي نفسه، تجاه دول بلدان غرب افريقيا تحديدا، من نموذج قائم على مكونات عقدية ومذهبية مشتركة معروفة، إلى سردية جديدة يتحول فيها الاسلام المغربي إلى نموذج ديني منفتح ومرن يحرّكه طموح استيعاب التعددية الدينية والثقافية ودعم التعايش السلمي في البلدان الإفريقية ذات الأقلية المسلمة، مثل جنوب إفريقيا، أو البلدان الإفريقية التي لا يشترك معها في الثوابت والمقومات الدينية نفسها.
قد نتفهم الحاجة والدواع الملحة التي أملت مثل هذا التحوير الجوهري في الخطاب المرجعي للمؤسسة بجعله منفتحا وأكثر مرونة، وذلك بغرض خدمة طموحات شمولية تستوعب بشكل أفضل واقع ديني تعددي تخترقه تيارات وطوائف ذات مرجعيات ايديولوجية متنوعة ورهانات ومصالح رمزية ومادية متناقضة. لكن هذه النقلة النوعية في الخطاب المرجعي للمؤسسة، رغم أهميتها في تكريس منطق “اقتسام تجربة” وإبعاد شبهة “تصدير” النموذج، هي بصدد خلق توترات وتناقضات ذاتية داخل المنظومة المؤسساتية نفسها. فقد خلقت ندوة تحت إشراف المؤسسة في نونبر 2018 بمراكش حول موضوع السلفية جدلا حادا بين بعض ممثلي الفروع كاد أن يتحول إلى صدام مفتوح بين تيار التصوف، وهو الغالب داخل المؤسسة، وبين بعض المحسوبين على الحساسية السلفية.[xxiii] من جهة أخرى، هناك أصوات من داخل المؤسسة الدينية الرسمية نفسها غير مقتنعة تماما بعملية الدوزنة المشار إليها بل وتنتقدها صراحة معتبرة إياها “تنازلا غير مستساغ”[xxiv] في اختيارات تاريخية تعتبر الأساس والطابع المميز للعلامة الدينية المغربية في إفريقيا. وهناك من يذهب أبعد من ذلك باعتبار الانفتاح المشار إليه أعلاه “تفريطا” صريحا في منطقة غرب إفريقيا التي تشكل منطقة النفوذ التقليدي للمغرب.[xxv]
في كل الأحوال، في خضم التأرجح بين منطق الوفاء الحرفي للثوابت في صيغتها الأصلية والمنطق المنفتح المرن في التعامل مع التعددية الدينية بإفريقيا، يبدو أن المؤسسة في المرحلة الراهنة هي بصدد تجريب دينامية جديدة لاختبار هذه الاختيارات، لا سيما مع استكمال تشكيل الفروع الخارجية المؤسسة وتفعيل أنشطتها.
من الصعب حاليا التنبؤ بفعالية هذه الدينامية أو استشراف مدى قدرة الجهود المبذولة لاستيعاب معطيات الواقع الديني المركب بإفريقيا والتكيف معها، لكن ذلك سيكون ممكنا مع مرور الوقت، لاسيما مع توضح الرؤية الموجهة لعمل المؤسسة. فللمفارقة، إلى حدود نهاية سنة 2019، لا تتوفر المؤسسة على أي وثيقة استراتيجية مرجعية تعكس بوضوح رؤيتها وتحدد منهجية عملها بالنسبة للمديين القريب والمتوسط. الأمر الذي يفسر إقدام الرئيس المنتدب للمؤسسة، خلال الاجتماع الأخير للمجلس الأعلى في شهر دجنبر 2019 على حثّ أعضائها على ضرورة الاستعجال في صياغة “وثيقة مذهبية” توجيهية تساعد على رسم خارطة طريق للمؤسسة تراعي الأوضاع المتفاوتة والخصوصيات الثقافية والدينية المتباينة للبلدان المنخرطة فيها[xxvi].
على مستوى الهيكلة: إشكالات الترسيم القانوني للفروع وتفعيلها
تعرف المؤسسة نفسها بأنها إطار ذي بعد روحي-ديني، مقرها المركزي بالمغرب، لكن يمكن أن تحدث لها فروعا بباقي الدول الإفريقية[xxvii]. رغم حرص الجهات الرسمية على التأكيد دائما بأن المؤسسة لا يمكن أن تكون “بديلا لمؤسسة رسمية في أي بلد” أو منخرطة في أي نشاط سياسي”[xxviii]، فبعد خمس سنوات من إطلاق المؤسسة، فالأخيرة باعتبارها منظمة ذات بعد قاري، لازالت تواجه صعوبات في الحصول على الاعتراف القانوني بفروعها الخارجية. فما يطلق عليه الآن “فروعا خارجية” للمؤسسة هي ليست في حقيقة الأمر سوى جمعيات دينية محلية عادية، تأسست وفق الأنظمة القانونية للجمعيات الجاري بها العمل في تلك الدول، قبل أن يتم إسباغ صفة فرع المؤسسة عليها.
والواقع أن هناك فرق بين تأسيس الفرع وفق “اتفاقية المقر” accord de siege، وهي الصيغة القانونية التي تشتغل بها الهيئات الإقليمية والدولية المشهورة في مجال الدعوة الإسلامية والتي أسست لها مكاتب فرعية بدول إفريقية مثل جمعية الدعوة العالمية الإسلامية الليبية ورابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وبين تأسيسه وفق نظام الجمعيات المعمول به في تلك الدول. فاتفاقية المقر من شأنها أن تقنّن وترسّم الارتباط العضوي بين المؤسسة الأم وفروعها، وهي فضلا عن ذلك تُمَتِع الفرع بالحصانة الديبلوماسية وكافة الضمانات اللازمة لمزاولة أنشطتها. أما بالنسبة للحالة الثانية، أي تأسيس الفروع وفق قانون الجمعيات، فالارتباط بين المؤسسة الأم والجمعيات التي يطلق عليها “فروع” هو في جل الحالات غير مقنن ويفتقد لأي أساس قانوني واضح وملموس، فضلا عن أن هذه الوضعية القانونية البسيطة لا تساعد المؤسسة على تكريس الحضور الوازن والإشعاع القوي الذي تتطلع إليه مؤسسة لا ترى نفسها “مثل باقي الجمعيات الأخرى.”[xxix]
ولدينا حالة محددة تجسد هذا الإشكال القانوني بشكل واضح. فبالنسبة لما نعتبره “فرع المؤسسة في السينغال”، والذي كان يفترض أن يمثل حالة نموذجية ومتقدمة في خارطة الفروع، نحن أمام جمعية تحمل اسم “جمعية أصدقاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة”[xxx]. ويمكن أن نقيس على ذلك حالات مماثلة من البلدان 32 التي تغطيها خارطة الفروع.
واضح أن المؤسسة تواجه، الى حدود الساعة، صعوبات قانونية وسياسية ومالية أعاقت استكمال هيكلتها القانونية بالشكل الذي يليق بحجمها ويخدم أهدافها الطموحة. يرجح أن المؤسسة تعسّر عليها سلك المساطر القانونية وإيجاد قنوات للتفاوض على بنود اتفاقات المقر، الذي يبرم مباشرة مع الجهات السيادية للدولة التي يوجد بها الفرع، وحتما هناك اعتبارات سياسية قد تكون حالت دون ذلك، فتم اللجوء للحل الأيسر والمتاح وهو تأسيس جمعيات عادية يتم التعامل معها كفروع للمؤسسة.
تبدو الجهات الرسمية واعية تماما بهذا الإشكالات. ففي كلمته الملقاة بمناسبة افتتاح الدورة الثالثة للمجلس الأعلى[xxxi]، لمّح الرئيس المنتدب للمؤسسة صراحة إلى هذا الإشكال حيث حثّ رؤساء الفروع على بدل مجهود أكبر في إقناع الجهات الرسمية في بلدانهم بجدوى المؤسسة وأهدافها النبيلة. ولعل عدم صدور ظهائر الاعتراف بهذه الفروع، كما ينص على ذلك الظهير المؤسس في مادته الثانية، هو مؤشر يؤكد هذا الاشكال، هذا إن لم تكن فكرة استصدار ظهير يعترف بفروع تؤسس وفقا للقوانين الجاري بها العمل في تلك البلدان، كما ينص على ذلك الظهير المؤسس (المادة 2)، هي نفسها مشوبة بعيب قانوني شكلي لم ينتبه له المشرع عند صياغة الظهير.
من جهة أخرى، هناك مشكلة أخرى تتعلق بتفعيل عمل الفروع. فإلى حدود الساعة، لا زالت العديد من الفروع لا تتوفر على مقرات خاصة بها، أو هي تتوفر على مقرات لكنها غير مجهّزة أو لا تتوصل بالاعتمادات المادية بشكل منتظم. وربما هذا أحد الأسباب التي تفسر الإيقاع البطيء لنشاطها، بحيث لم تتجاوز حصيلة جل الفروع نشاط واحد أو نشاطين في السنة بأكملها، علما أن هناك فروع العمل بها لم ينطلق من الأصل. والراجح أن تعثر تفعيل نشاط بعض الفروع يختلف حسب الدول. ففي حالات معينة، يعود لمشاكل أو اضطرابات سياسية أو أمنية تمر منها تلك الدول، تعيق عملية التحويلات المالية للفروع، مثل حالة السودان ونيجيريا، وفي حالات أخرى يرتبط المشكل بقرار سياسي، أو أحيانا بصراعات صامتة بين الأعضاء داخل الفرع الواحد. وهذا يتطلب من الأمانة العامة للمؤسسة البقاء على درجة عالية من اليقظة لمواكبة ما يجري وحل الإشكالات التي قد تعيق نشاط بعض الفروع الخارجية.
محدودية الموارد المادية
سبقت الإشارة إلى أن فكرة المؤسسة في البداية كانت ستقتصر على دول غرب إفريقيا فقط، لكن بعد الجولات الملكية للقارة سنتي 2013 و2014 تم توسيع الفكرة لكي تشمل علماء القارة ككل. لكن العدد الكبير من الفروع المرتبطة بالمؤسسة وحجم الإنتظارات المعقودة عليها في المرحلة الراهنة يضعها أمام تحدي حقيقي يتعلق بمدى توفر الامكانات المادية والبشرية اللازمة لاشتغالها.
تقدر الميزانية السنوية للمؤسسة، إلى حدود نهاية 2019، بـ100 مليون درهم تصرف كإعانة من الميزانية العامة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية[xxxii]. ويبدو أن هذه الميزانية غير كافية لإعداد وتجهيز مقرات 32 فرعا، فضلا عن انجاز مشاريع وبرامج اللجان في المرحلة المقبلة. إذا استحضرنا المحيط التنافسي الذي تشتغل فيه المؤسسة، حيث تتوفر لبعض القوى والشبكات الجمعوية ميزانيات هائلة تمول فيها مشاريع ضخمة تصرف في أبواب العمل الخيري والدعوي والتعليم والرعاية الصحية، مثل جمعية الفاروق بجمهورية مالي، فمن أين للمؤسسة بكل الامكانات والموارد الضرورية لكي تنهض بأدوارها وتفرض وجودها في وجه مثل هذا المنظمات والجمعيات؟
يبدو أن الجهات المشرفة على المؤسسة تعي جيدا هذا الإشكال، وهي لا تتردد في إعلانه صراحة من خلال التأكيد بأن “ما يمكن أن تحققه [المؤسسة] بعزمها وإرادتها أكثر من وسائلها”[xxxiii]. من بين المفاتيح لحل هذا الإشكال فتح الباب أمام التمويلات الخارجية. ينص الظهير المؤسس على أنه إلى جانب مساهمة الدولة، تشمل مداخيل المؤسسة الإعانات المقدمة من لدن الهيئات العامة والخاصة الوطنية والأجنبية والدولية”، إضافة إلى الهبات وعائدات الأملاك المحبسة لفائدتها (المادة 26). ونعتقد أن بعض المؤسسات الاقتصادية المغربية التي تنشط بقوة في إفريقيا، وفي مقدمتها المكتب الشريف للفوسفاط، وغيرها من المؤسسات التجارية والاستثمارية التي تنشط في مجال الأبناك والبناء وخدمات الاتصال وغيرها، ستكون مدعوة للإسهام في الدعم المالي للمؤسسة، لا سيما وأن هذه المؤسسات تجني أرباحا مهمة بالاستفادة من الرصيد الرمزي وعلاقات التعاون الديني بين المغرب وتلك البلدان، ونموذج الخطوط الملكية المغربية بالسينغال ومالي هو خير مثال على ذلك.
القدرات البشرية للمؤسسة: ضرورة الارتقاء بالأمانة العامة
يهم التحدي الرابع الموارد البشرية للنواة المركزية للمؤسسة، تحديدا الأمانة العامة التي يوجد مقرها بفاس. فنمو أجهزة المؤسسة وتوسع قاعدة فروعها الخارجية يستلزم الارتقاء بالأمانة العامة وإغنائها بالكوادر والأطر البشرية المؤهلة، باعتبارها الجهاز المركزي الموكول له التدبير اليومي والتنسيق الأفقي والعمودي بين جهازي المجلس الأعلى والمكتب التنفيذي وبينها وبين اللجان المتخصصة والفروع. فمؤسسة دينية ضخمة، تتوزع شبكة فروعها على 32 بلدا، يصعب تدبير شؤونها بفعالية من خلال أمانة عامة لا يتجاوز عدد موظفيها القاريين العشرين فردا ونيف.
صحيح أن المؤسسة تستعين بنخب من الأساتذة الجامعيين كمتعاونين، وخلية مكونة من ثلاثة خبراء متعاقدين، لكن الأمر يستدعي في المرحلة الراهنة تطعيم الأمانة العامة بخلية مصغرة للتفكير والتخطيط الاستراتيجي، مثلا في شكل مركز تفكير (Think Tank) مندمج بالمؤسسة، تستقطب خبراء متمرسين وكفاءات مؤهلة لها تجربة عملية وإلمام معمق بآليات عمل الديبلوماسية الدينية والعلاقات الدولية والتحليل الجيو-سياسي وبمقدورهم استيعاب الخريطة الجيو-دينية واستشراف التطورات السياسية والأمنية في القارة الإفريقية وباقي العالم.
وفي هذا الصدد، ينبغي التنويه بفتح ماستر جديد متخصص في الديبلوماسية الدينية، بكلية الشريعة بفاس، سنة 2019. فهذه المبادرة، التي ينبغي إيلائها كل الرعاية والدعم، يمكن أن تشكل مشتلا لإنتاج فئة من الأطر العليا المتمكنة من تقنيات التواصل الديني والتشبيك المؤسساتي وآليات الوساطة والتدبير الحضاري للتنوع الثقافي والديني وغيرها من المجالات التي من شأنها أن تساعد على تطوير طريقة اشتغال جهاز الأمانة العامة ومساعدته في عملية التنسيق الفعّال الأفقي والعمودي مع الفروع وفيما بينها.
أي دور لوزارة الخارجية؟
لا شك أن قدرة المؤسسة معالجة التحديات وتجاوز الصعوبات التي تعترض طريقها، سيشكل مؤشرا مهما لقياس قدرات المؤسسة واختبارا جديا لفعاليتها في المضي قدما في إنجاز الأهداف المرسومة لها. وفي هذا الصدد، يمكن أن تقدم وزارة الخارجية المغربية إسهاما مهما على مستوى المواكبة والتدخل لمعالجة الإشكالات التقنية والقانونية المرتبطة باستكمال إجراءات الاعتراف الرسمي بالفروع الخارجية. فالصعوبات المسطرية والقانونية للانتقال بالفروع -أو بعضها على الأقل- من جمعيات إلى فروع معترف بها رسميا وتطبيع وجودها في تلك الدول، إضافة إلى الحاجة لغربلة وانتقاء النخب الدينية الكفيلة بحمل لواء المؤسسة في تلك الدول، فضلا عن الضرورة الملحة لمواكبة تنفيد بعض البرامج، مثل برنامج تأهيل الأئمة المحليين في تلك بلدانهم، كلها عناصر تفرض يقظة وجهدا دؤوبين ينبغي أن يتكامل ويندمج فيه عمل المؤسسة الدينية الرسمية وجهاز الخارجية المغربية من خلال شبكة سفاراتها وهيئاتها الديبلوماسية المنتشرة بإفريقيا.
وهنا لابد من لفت الانتباه إلى التجربة الفريدة للسفارة المغربية بدكار التي تنفرد باحتضانها لمنصب مستشار ديبلوماسي مكلف بالشؤون الدينية مهمته الرئيسية التواصل وتدبير العلاقة مع ممثلي الطرق الصوفية والجمعيات والفعاليات الدينية النشيطة في السينغال.
ففي الظرفية الراهنة، تبدو الحاجة ماسة وملحة لتوسيع هذه التجربة المتميزة التي تجسد بشكل عملي فكرة الديبلوماسية الدينية لتشمل بلدان أخرى، من غرب إفريقيا على الأقل، ولما لا مأسسة الفكرة مركزيا على مستوى وزارة الخارجية بما يساعد على توفير الدعم السياسي والقانوني التقني اللازم لفروع المؤسسة ومواكبة تنزيل مخططاتها ومشاريع عملها بدول القارة.
الهوامش
* هذه الورقة هي جزء من مخرجات مشروع بحث ميداني تم بدعم من الشبكة الإفريقية لبناء السلم التابعة لمجلس البحوث في العلوم الاجتماعية (APN-SSRC) وبتمويل من منظمة كارنيغي نيويورك.
[i] أنظر نص خطاب الملك بمناسبة تنصيب المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة،14 يونيو 2016:
[ii] الفكرة نفسها عبرّ عنها مسؤول ديبلوماسي بوزارة الخارجية السينغالية وشخصية فاعلة في الحقل الإسلامي بالسنغال في مقابلتين أجراهما الباحث بدكار، شتنبر 2019.
[iii] مقابلة مع شخصية فاعلة في الحقل الإسلامي السينغالي، دكار، شتنبر 2019.
[iv] مقابلة مع شخصية من المؤسسة الدينية الرسمية، يناير 2020.
[v] مقابلة مع شخصية من المؤسسة الدينية الرسمية، غشت 2019.
[vi] Soares, B., & Otayek, R., 2007. Islam and Muslim Politics in Africa. NY: Palgrave Macmillan.
[vii] Tozy, M., 2013. «Des oulémas frondeurs à la bureaucratie du “croire” : les péripéties d’une restructuration annoncée du champ religieux au Maroc», Hibou B. (dir.), La Bureaucratisation néolibérale, Paris, La Découverte, p. 129-154.
[viii] نص كلمة الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في افتتاح الدورة العادية للمجلس الأعلى للمؤسسة، 08 دجنبر 2017:
[ix] مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة: بلاغ صحفي بمناسبة الإعلان عن التأسيس.
[x] المادة 12 من الظهير الشريف رقم 1.15.75 (24 يونيو 2015) المتعلق بإحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. الجريدة الرسمية، ع. 6372، 25 يونيو 2015، ص 5996-6008.
[xi] كلمة الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة خلال افتتاح الدورة العادية الثالثة للمجلس الأعلى للمؤسسة، 17 دجنبر 2019:
http://www.fm6oa.org/السيد-أحمد-التوفيق-كلمة-افتتاح-الدورة/
[xii] هناك عاملان رئيسيان يفسران هذا الانحسار: أولا الواقع الجديد الذي فرضته ‘الحرب الدولية على الإرهاب’ حيث تزايد الرقابة والضغط على أنشطة الجمعيات والمنظمات السلفية الناشطة في حقل الدعوة الإسلامية (Soares & Otayek, 2007, 11)، وفي مقدمتها تلك المرتبطة ببعض دول الخليج. والملاحظ أن توجهات القيادة الجديدة للمملكة العربية السعودية، في السنوات الأخيرة، هي نفسها لم تعد متحمسة كثيرا لمواصلة الدعم المادي السخي الذي كانت تستفيد منه الجمعيات السلفية منذ عدة عقود. ثم هناك الواقع الذي فرضه سقوط نظام القذافي، لاسيما التراجع الكبير لـ”جمعية الدعوة الإسلامية العالمية” التي كان لها حضور قوي في العديد من دول إفريقيا.
[xiii]Soares, B., & Otayek, R., 2007. Islam and Muslim Politics in Africa. NY: Palgrave Macmillan, p. 3.
[xiv] Villalón, L. A. 2006 (1995). Islamic society and state power in Senegal: Disciples and citizens in Fatick. Cambridge University Press, p. 220-221.
[xv] Hmimnat, S., 2020. ‘Spiritual Security’ as a (Meta-)political Strategy to Compete over Regional Leadership: Formation of Morocco’s Transnational Religious Policy towards Africa, The Journal of North African Studies, 25:2, 189-227.
[xvi] مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة: بلاغ صحفي بمناسبة الإعلان عن التأسيس.
[xvii] كلمة العلماء (ألقاها محمد يسف) بمناسبة انعقاد المجلس الأعلى لـ مؤسسة محمد السادس لعلماء إفريقيا، 8-10 دجنبر 2019:
[xviii] كلمة الرئيس المنتدب بمناسبة افتتاح الدورة الثانية للمجلس الأعلى للمؤسسة، 03 نونبر 2018:
[xix] Westerlund, D. & Evers Rosander, E., 1997. African Islam and Islam in Africa: Encounters between Sufis and Islamists. London: Hurst and Company.
[xx] كلمة الأمين العام للمؤسسة في افتتاح ندوة الثوابت الدينية المشتركة: أسس الهوية الإفريقية، 29/06/2019:
http://www.fm6oa.org/كلمة-الدكتور-سيدي-محمد-رفقي-في-افتتاح-ن/
أنظر أيضا مداخلة تذهب في نفس الاتجاه ألقاها الشيخ محمد داوود ميلانزي رئيس منظمة الفلق الإسلامية بجوهانسبرغ ومقدم الطريقة التجانية بجنوب أفريقيا:
[xxi] توصيات المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة الدورة العادية للمجلس، 08-09/12/2017:
[xxii] مقابلة مع رئيس أحد فروع المؤسسة بمنطقة غرب افريقيا، نونبر 2019.
[xxiii] مقابلة مع أحد المشاركين في ندوة مراكش حول السلفية، يناير 2020.
[xxiv] مقابلة مع شخصية تنتمي للمؤسسة الدينية الرسمية، يناير 2020.
[xxv] مقابلة مع شخصية تنتمي للمؤسسة الدينية الرسمية، يناير 2020.
[xxvi] كلمة الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة خلال افتتاح الدورة العادية الثالثة للمجلس الأعلى للمؤسسة، 17 دجنبر 2019:
http://www.fm6oa.org/السيد-أحمد-التوفيق-كلمة-افتتاح-الدورة/
[xxvii] المادة 2 من الظهير الشريف رقم 1.15.75 (24 يونيو 2015) المتعلق بإحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. الجريدة الرسمية، ع. 6372، 25 يونيو 2015، ص 5996-6008.
[xxviii] بلاغ بمناسبة تنصيب المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، 15/06/2016:
[xxix] كلمة الرئيس المنتدب في افتتاح الدورة التواصلية العلمية الثالثة التي نظمها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالرباط، 18/05/2019:
http://www.fm6oa.org/أهمية-التواصل-الرقمي-في-حماية-الثوابت/
[xxx] Association des amis de la fondation Mohammed VI des Ouléma Africains
[xxxi] http://www.fm6oa.org/السيد-أحمد-التوفيق-كلمة-افتتاح-الدورة/
[xxxii] وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مشروع نجاعة الأداء، تقرير مقدم بمناسبة مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2019، ص 88.
[xxxiii] كلمة الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة خلال افتتاح الدورة العادية الثالثة للمجلس الأعلى للمؤسسة، 17 دجنبر 2019. مرجع سابق.
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]
سليم حميمنات
أستاذ باحث بمعهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس الرباط. صدرت له العديد من الأبحاث والدراسات آخرها إصداره الموسوم"السياسة الدينية بالمغرب (1984-2002): أصولية الدولة وإكراهات التحديث السلطوي" عن دار إفريقيا الشرق.