استضاف برنامج “من الرباط” كلاً من رشيد أوراز، الباحث الرئيسي في المعهد المغربي لتحليل السياسات، والباحث والإعلامي عبد الله الترابي، والصحفي والكاتب حمزة أنفاسي، في حلقة بعنوان “من الرباط… صدمة نتائج الإحصاء و’مخاطرة‘ أخنوش“، لمناقشة النتائج المعلن عنها مؤخراً للإحصاء العام للسكان والسكنى الذي أُجري بدءاً من 1 شتنبر 2024. وقد تم الكشف عن هذه البيانات من قبل المندوب السامي للتخطيط، شكيب بن موسى، منذ أيام قليلة. وتناولت النتائج بيانات مثيرة للقلق حول التركيبة السكانية، مما يعكس بوادر الشيخوخة في بنية الهرم السكاني، وتراجعاً متسارعاً في معدل الخصوبة، وزيادة في معدلات البطالة، فضلاً عن تركز أكبر للسكان في مناطق معينة من المغرب.
تعليقًا على هذه البيانات، شدد الباحث رشيد أوراز على أهمية عملية الإحصاء، موضحاً أنه رغم الطابع التشاؤمي لمخرجاتها، فإنها تكشف عن متغيرات واقع كنا نجهله. وأضاف بأنه على الرغم من تفاجئه ببعض النتائج، فإن بعضاً منها كانت بوادرها واضحة خلال السنوات الماضية. كما عبر عن دهشته من عدد سكان المغرب، الذي سجل زيادة لم تصل إلى مستوى التوقعات، مشددًا على ضرورة تقديم مؤسسات الدولة تفسيرات واضحة تجيب عن التساؤلات حول انعكاسات هذا الوضع واستمراريته. كما أشار إلى أن السبب وراء هذا الرقم قد يكون مرتبطا بالهجرة السرية والقانونية على حد سواء.
من جهة أخرى، تناول أوراز هامشية مسألة اعتماد نتائج عملية الإحصاء لتقليص عدد المستفيدين من الدعم الاجتماعي، مبرزا أن الإحصائيات كشفت عن ارتفاع معدلات الهشاشة والفقر التي تطبع الساكنة. كما أشار إلى وجود فئة مهمة على عتبة الفقر، قد تكون أكثر عرضة للتأثر بالأزمات المحتملة مثل الجفاف أو انتشار الأوبئة.
تعليقًا على نفس الموضوع، أشار عبد الله الترابي إلى أهمية هذه الأرقام التي تعكس “ثورات صامتة” يشهدها المغرب منذ أكثر من قرن، فضلاً عن التغييرات التدريجية في البنيات المجتمعية. وأكد على ضرورة وضع هذه البيانات في سياقها العام لفهم الأوضاع التي تمر بها البلاد.
من جهته، أشار حمزة أنفاسي إلى وجود بوادر اجتماعية واقتصادية تفسر النتائج التي كشفت عنها عملية الإحصاء، والتي تحمل طابعًا تشاؤميًا. وأوضح أن تحقيق قوة إنتاجية لأي بلد يتطلب توفر يد عاملة كبيرة، مشيرًا إلى هدر 4.9 مليون شاب تتراوح أعمارهم بين 15 و34 سنة دون عمل أو دراسة، إضافة إلى الفجوة القائمة بين نمو السكان والنمو الاقتصادي. وأكد أن معالجة هذه التحديات تستدعي وضع سياسات عمومية دقيقة وفعّالة.
بخصوص العلاقة بين المعطى الديمغرافي والتنمية الاقتصادية، أشار الباحث أوراز إلى أن قرب المغرب من أوروبا ساهم في تطوير اقتصاده على مدار الخمسة أو الستة عقود الماضية، مما انعكس إيجابياً على مستوى المعيشة ورفع أمد الحياة لدى المغاربة. ومع ذلك، شدد على أن انخفاض معدل الخصوبة الذي نشهده اليوم يفرض ضرورة تدبير محكم للانتقال الديمغرافي، مع مراعاة التحولات العالمية.
كما تناول مسألة هجرة الأدمغة، مؤكداً على أهمية الحفاظ على الكفاءات التي تُكوَّن بأموال دافعي الضرائب. ودعا إلى إجراء دراسات لفهم أسباب هجرتهم، والعمل على تحفيزهم وتوفير الظروف الملائمة للعيش الكريم، لضمان استفادة الاقتصاد الوطني والمجتمع المغربي من هذه الطاقات.
تعليقاً على مسألة انخفاض معدل الخصوبة، أوضح الترابي أن هذا التراجع يُعد ظاهرة شائعة تواجهها العديد من الدول، وهو نتيجة طبيعية للتحولات الاقتصادية والديمغرافية. وأشار إلى أن عوامل مثل ارتفاع معدل التحضر وتحسن مستوى المعيشة أسهمت بشكل كبير في تغيير نمط الحياة، وتقليص عدد الأطفال، وتراجع مستويات الإنجاب لدى المغاربة.
يضم حمزة أنفاسي رأيه إلى رأي الترابي، حيث يرى هو الآخر أن للمعطى الاقتصادي تأثيراً مباشراً على عزوف المغاربة عن الزواج والإنجاب. وأكد أن هذه الظاهرة يمكن معالجتها من خلال سياسات عمومية فعالة تهدف إلى تحسين جودة قطاعي التعليم والصحة، مما يقلل الأعباء المالية على الآباء والأمهات ويشجعهم على الإنجاب.
بخصوص انعكاس ارتفاع مستوى تعليم المرأة على معدل الخصوبة، قال أوراز إن تكوين الأسرة وإنجاب الأطفال يتدخل فيه العديد من العوامل النفسية والديموغرافية والاقتصادية. وأضاف أن هامش التحكم في المؤشر الديمغرافي ضعيف جداً حتى بالنسبة للدول المتطورة، وبالتالي يجب التعامل معه كمعطى مهم عند وضع السياسات العمومية. كما أشار إلى أنه حتى وإن كان شباب اليوم يرغبون في بناء أسرة، فإن الظروف المادية وضعف جودة الخدمات تشكل عائقاً أمام تحقيق ذلك.
وفيما يتعلق بتطور بنية الأسرة المغربية التي انخفض عدد أفرادها من حوالي خمسة ونصف إلى أربعة ونصف أفراد، قال الترابي إن القيمة التي تعكس هذه الوضعية هي ‘فردانية’ المجتمع المغربي، حيث لم تعد الجماعة تمارس سلطة كبيرة على الفرد، الذي أصبح أكثر حرية واستقلالية في قراراته.
وبخصوص قضية المرأة، أكد الترابي أن الرابح الأكبر من هذه التحولات الديموغرافية والثقافية والاجتماعية هي النساء. فقد ساهمت هذه التحولات في تعزيز أهمية تعليم الفتيات، وهو ما يفسر التغيرات التي تشهدها المدرسة المغربية والتعليم العام في البلاد. فقد تجاوزت نسبة الفتيات في المدارس العليا للتجارة وكليات الطب 65%، وهن الأكثر حضوراً في بعض التخصصات والمجالات.
بدوره، أشار حمزة أنفاسي إلى عدة عوامل تساهم في انخفاض معدل الخصوبة، من أبرزها التحولات العميقة والمعقدة التي يشهدها المغرب. فقد مر بتحولات كبيرة، من بينها انتقاله من مجتمع إقطاعي فلاحي إلى مجتمع يعتمد على الخدمات والمعرفة. وفي الوقت نفسه، يمر بثورة تكنولوجية وجيوسياسية مرتبطة بإعادة تموضعه على الساحة العالمية.
في المقابل، أشار الباحث أوراز إلى أن استفادة المغرب من عنصره البشري تتطلب معالجة شاملة، موضحاً أن عدم تماشي إصلاح المؤسسات السياسية والاقتصادية مع ارتفاع المستوى التعليمي للمواطنين يدفع بالبعض إلى تفكير في الهجرة. وأكد أن اليد العاملة التي كان من الممكن أن تساهم في تنمية المغرب، أصبحت تعمل في ظروف صعبة في الدول الأوروبية التي تستفيد منها.
بالنسبة لارتفاع معدل البطالة، قال أوراز إن الإحصائيات تظهر أن البطالة في المغرب ارتفعت بشكل ملحوظ، خاصة في المناطق التي تعتمد على النشاط الفلاحي، مرجعاً ذلك إلى الجفاف. في المقابل، لم تتغير معدلات البطالة بشكل كبير في المناطق الحضرية التي تتمتع بنشاط اقتصادي أكبر. وأشار إلى أن نتائج الإحصاء أظهرت أن البلاد لا تزال تعتمد بشكل كبير على الفلاحة، وأن المخططات الحكومية الهادفة إلى تسريع هذا القطاع لم تنجح في تحقيق التقدم المنشود.
من جهته، أكد الترابي أن مشكلة البطالة قديمة، وأن الحكومة الحالية تتحمل مسؤولية القيام بإصلاحات عميقة في هذا المجال، مثل تعزيز قطاع التعليم وتنويع الاقتصاد المغربي الذي يقتصر حالياً على بعض القطاعات المحتكرة والتي تشهد ريعا، مما يؤدي إلى خلق عطب بنيوي في الاقتصاد. وأوضح أن المغرب يعد اقتصاداً متوسطاً، ولا يمكن إحداث قفزة تنموية حقيقية إلا من خلال معالجة هذه القضايا، إضافة إلى إدخال عوامل الابتكار والبحث العلمي وكسر الاحتكارات، لأنها تمثل عوائق كبيرة أمام التقدم.
وأضاف أن التحولات الديموغرافية تؤثر بشكل كبير على علاقة المجتمع بالعمل السياسي، حيث تزايدت متطلبات الفرد تجاه السياسة. وهذا التغير يفسر العزوف السياسي الذي نشهده، والذي يظهر بوضوح في نتائج الانتخابات التشريعية في المغرب، حيث تسجل نسبة تصويت منخفضة، خصوصاً في المدن.
من وجهة نظر أنفاسي، فإن الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد يشكلان الحل الأمثل لمكافحة البطالة. كما يعتقد أن تثمين الرأسمال البشري سيساهم بشكل كبير في رفع معدل النمو. ويرى أنه من الضروري تنويع الاقتصاد، والاستثمار في مجالات تخلق قيمة مضافة كبيرة، مع تشجيع المنتج الوطني وضمان الرعاية الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، يشدد على أهمية تعزيز العدالة المجالية في الاستثمار وتوزيع الخدمات العمومية. ويؤكد على ضرورة بناء سردية تحفيزية للناس، تدفعهم للبقاء في البلاد، مما سيساعد على محاربة الهجرة.
تعليقاً على مسألة محطة تحلية مياه البحر التي شغلت الرأي العام مؤخراً، شدد أوراز على أهمية وضع قواعد واضحة لتنظيم مجال الاستثمار والخدمات، خصوصاً في ظل توجه المغرب نحو مشاريع ضخمة مثل كأس العالم والسعي لجذب الاستثمارات الأجنبية. وأشار إلى ضرورة احترام الإطار المؤسساتي، مشدداً على أهمية مساءلة مؤسسات الحكامة وقدرتها على مراقبة الأسواق، خصوصاً عندما يكون للمشاركين فيها نفوذ سياسي في البلاد. كما عبّر عن قلقه من تأثيرات دخول رجال الأعمال في السياسة، مستشهداً بإيلون ماسك في الولايات المتحدة الأمريكية.
في هذا السياق، أشار الترابي إلى إشكالية أخرى تتعلق بضعف الفصل بين الوظيفة السياسية والوظيفة الاقتصادية. فقد لفت إلى أن خطاب رئيس الحكومة في البرلمان كان محيراً للمواطنين، حيث بدت تصريحات عزيز أخنوش كأنها تخص رجل أعمال يعرض مشروع شركته الخاصة، بدلاً من رئيس حكومة مسؤول عن قيادة الجهاز التنفيذي وتنفيذ السياسات العمومية. مؤكدا أن هذا الخلط بين الأدوار يعمق أزمة الثقة في المؤسسات السياسية ويزيد من يأس المواطنين من العمل السياسي، مما يفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد.
في هذا الصدد، ضم حمزة أنفاسي رأيه للترابي مؤكدا أنه من الخطأ استخدام القانون للانقضاض على السلطة والموارد. وأضاف أن التقدمية في الدول الديمقراطية ينبغي أن تشمل جميع المجالات، مشيراً إلى أن الغني يجب أن يدفع ضرائب أكثر من الفقير.
على صعيد آخر، علق أوراز على المعطى الذي أظهر أن 75% من المغاربة يتحدثون بالدارجة، مبينا أن ذلك لا يعني أن المغرب يضم فقط 25% من الأمازيغ، مشيراً إلى أن الإشكال يكمن في صياغة السؤال، حيث كان من الأجدر أن يُطرح السؤال بشكل أدق حول اللغة التي يتحدث بها الأفراد في المنزل أو إذا كانوا يتحدثون الأمازيغية. وأكد ضرورة التعامل مع الأمازيغية بشكل مختلف، مع الحرص على تنزيل مقتضيات مرسوم الأمازيغية وتعميمها في التعليم والعديد من المجالات.
من جانبه، سلط الترابي الضوء على نقطة إيجابية، وهي أن أغلبية المغاربة يتحدثون الدارجة، التي هي نتاج الذكاء المغربي، وليست مجرد مزيج من العربية والأمازيغية، مما يعكس وحدة الأمة المغربية.
وفي الختام، أشار الصحفي والكاتب أنفاسي إلى أهمية تحليل الأرقام والإحصائيات والمعطيات بشكل دقيق، من أجل وضع سياسات عمومية ناجعة تتناسب مع الواقع وتلبي احتياجات المغاربة.