يفتح القرار 2797 نافذة فرصة نادرة لتقدم سياسي في نزاع الصحراء، لكنه يضع الأطراف أمام تحديات إقليمية معقدة
د. سعيد الصديقي
د. محمد مصباح
مقدمة
في تحول غير مسبوق في مسار نزاع الصحراء، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 31 أكتوبر 2025 القرار رقم 2797 الذي شكل منعطفا جديدا في مقاربة المجتمع الدولي لهذا الملف. فقد أيد القرار صراحة مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب إلى الأمم المتحدة سنة 2007 أساسا للمفاوضات لحل نزاع الصحراء. وشدد القرار بوضوح على أن الحكم الذاتي يكون تحت السيادة المغربية، وأن المبادرة المغربية تعتبر أساسا لحل عادل ودائم للنزاع، كما استبعد باقي الخيارات، بما في ذلك عدم الإشارة إلى مقترح البوليساريو الذي يتضمن خيار الاستفتاء، خلافا لما كان عليه الأمر في السابق.
يفتح القرار 2797 نافذة فرصة سياسية نادرة لحلحلة ملف الصحراء، بما قد يمكن من بلورة حل واقعي ومستدام لنزاع استمر لأكثر من خمسة عقود، ويرسخ في الوقت نفسه الاعتراف الدولي المتزايد بمقترح الحكم الذاتي، ويفرض مسؤوليات جديدة على الأطراف، بما في ذلك الجزائر التي يعتبرها القرار طرفا أساسيا في النزاع.
وقد يمهد هذا القرار لمرحلة جديدة في العلاقات المغربية-الجزائرية، تتيح الانتقال إلى مقاربة قائمة على منطق” رابح-رابح“، إذا تم استثمار هذه الفرصة التاريخية لابتكار صيغة توافقية للحكم الذاتي تشارك الجزائر في تطويرها من خلال انخراطها في العملية التفاوضية.
كما يمكن لهذا القرار أن يشكل مدخلا لتهدئة التوترات الإقليمية، لا سيما بين المغرب والجزائر من خلال وضع آليات تعاون طويلة الأمد تتيح للجزائر فرصة المشاركة في رسم مستقبل المنطقة، مع إمكانية حصولها على امتيازات جيوسياسية طويلة الأمد، في إطار المبادرة الأطلسية التي أطلقتها المغرب في 6 نوفمبر 2023، والتي قد تقدم للجزائر فرصا جيوسياسية واقتصادية مهمة على الواجهة الأطلسية، وهو ما أكده الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2024 باستعداد المغرب منح امتيازات للجزائر على المحيط الأطلسي.
بهذا المعنى، لا يشكل القرار 2797 مجرد تعديل لغوي في قرارات مجلس الأمن حول ملف الصحراء، بل فرصة سياسية تاريخية توسع الخيارات المتاحة، ويمكن أن يؤسس لمسار تفاوضي جديد قد يسهم في وضع أسس لحل واحد من أطول النزاعات في العالم. فهل ستستثمر الأطراف، لا سيما الجزائر والمغرب، هذه الفرصة للدفع نحو حل عملي ومستدام لقضية الصحراء؟
السياق
حصل القرار على تأييد 11 عضوا داخل مجلس الأمن، فيما امتنعت روسيا والصين وباكستان عن التصويت، بينما اختارت الجزائر عدم المشاركة في التصويت. وتظهر هذه النتيجة أن امتناع كل من روسيا والصين عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة، صاحبة القلم في هذا الملف، يعد بمثابة تأييد ضمني لمضمونه. كما أن دعم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا باعتبارهم أعضاء دائمين ذوي حق الفيتو، قد منح القرار وزنا سياسيا ومعنويا مهما، ورسخ مكانته باعتباره محطة مفصلية في إعادة تشكيل المواقف الدولية تجاه مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب.
إن اعتماد القرار بصيغته الحالية لم يكن متوقعا لدى معظم المتتبعين للملف، نظرا لحدة الاستقطاب بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى لحظة إصدار القرار. فلم يكن مرجحا أن يتم التوصل بسهولة إلى صيغة توافقية تحظى بقبول جميع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. وقد كشف وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، في مقابلة مع القناة الثانية (2M) بتاريخ فاتحنوفمبر 2025، عن بعض الصعوبات التي سبقت عملية التصويت، مشيرا إلى أن روسيا كانت تدرس بجدية إمكانية استعمال حق النقض حتى اللحظات الأخيرة، قبل أن تعدل عن ذلك عقب انخراط المغرب في جهود دبلوماسية مكثفة. ووفقا لوزير الخارجية، يبدو أن موسكو كانت تسعى إلى الحصول على تنازل معين من واشنطن، وهو ما أسهم في تعقيد الظروف التي أحاطت بمرحلة اعتماد القرار.
آثار القرار داخليا وإقليميا
على الصعيد الداخلي، يساهم هذا القرار في تعزيز مشروعية النظام السياسي، ولاسيما أن قضية الصحراء – بوصفها إحدى ركائز السياسة الخارجية المغربية – تمثل مجالا محفوظا للملك. ويسجل هذا الإنجاز، بالتالي، بالأساس للمؤسسة الملكية. وقد أكد وزير الخارجية المغربي في الحوار المشار إليه سابقا هذا المعنى، مشيرا إلى المتابعة الدقيقة والتوجيه المستمر من قبل العاهل المغربي لمختلف مراحل الترافع حول القرار، وإلى الانخراط المنتظم في التشاور مع القوى الدولية والإقليمية المؤثرة.
على المستوى المجتمعي، ساهم القرار في تجديد اللحمة الوطنية وتعزيز الشعور بالانتماء، إذ أعاد تعبئة الفاعلين السياسيين والمدنيين حول قضية تشكل ركيزة في الهوية الوطنية المغربية. فمباشرة بعد القرار الأممي خرجت احتفالات عفوية في مدن عديدة، بما يعكس المكانة الرمزية التي تحتلها القضية في الوعي الجماعي للمغاربة. كما أن قرار الملك بتحديد 31 أكتوبر عيدا وطنيا أضفى طابعا مؤسساتيا على هذا الارتباط، بما يضع هذا التاريخ في مصاف رمزية المسيرة الخضراء.
يمثل هذا القرار اختراقا ديبلوماسيا استثنائيا، يعزز مكانة المغرب إقليميا، ويمنحه أفضلية تفاوضية في مسارات تسوية النزاع. ويعزز ذلك الخطاب الملكي الذي ألقي مباشرة عقب اعتماد القرار في مجلس الأمن، والذي تضمن رسائل مطمئنة ومتوازنة لحلفاء المغرب وخصومه على حد سواء، ما يشير إلى رغبة مغربية في استثمار القرار لتهيئة بيئة تهدئة إقليمية.
من جهة أخرى، اعتبرت الجزائر، الداعم الرئيس لجبهة البوليساريو، أن القرار يشكل تحولا في مقاربة مجلس الأمن لقضية الصحراء، ولا يعكس في نظرها العقيدة التقليدية للأمم المتحدة في مجال تصفية الاستعمار. وقد انتقد المندوب الجزائري لدى الأمم المتحدة نص القرار بدعوى تجاهله مقترحات البوليساريو ومنحه الأفضلية لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية على حساب الخيارات الأخرى. وامتنعت الجزائر عن التصويت، في تعبير واضح عن رفضها لمخرجات القرار.
ومع ذلك، حملت التصريحات الحكومية الجزائرية التي صدرت لاحقا قدرا من المرونة، حاولت إعادة تأويل القرار، من خلال الادعاء بأنه يتضمن أيضا عناصر من مقترحات البوليساريو، كما ظهر في تصريحات صدرت عن وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، بعد أيام من صدور قرار مجلس الأمن والذي تجنب فيها لغة الرفض القاطع وقدم قراءة أقل حدة للقرار. كما عبرت الجزائر عن استعدادها لدعم الوساطة بين المغرب والبوليساريو، ضمن إطار أممي، ويعكس هذا التذبذب في المواقف الرسمية الجزائرية في الأيام الأولى لصدور القرار حالة من عدم الاستيعاب الأولي لتداعياته المستقبلية، قبل أن تتجه الجزائر نحو تبني خطاب أقل حدة يعيد تأويل القرار بدل رفضه الكامل.
ومن المرجح أن تواصل الجزائر دعمها لجبهة البوليساريو. ففي لقاء مع زعيم جبهة البوليساريو يوم 13 نونبر 2015، أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، استمرار هذا الدعم. كما قد تعمل الجزائر أيضا على إشراك حلفاء تقليديين – على غرار جنوب إفريقيا – لمواجهة المكاسب الدبلوماسية التي حققها المغرب والحد من أثار قرار مجلس الأمن. غير أن إحجام كل من روسيا والصين عن مساندة الموقف الجزائري داخل مجلس الأمن يعكس اتساع دائرة العزلة التي تجد الجزائر نفسها فيها أثناء تدبير هذا الملف.
أما جبهة البوليساريو فقد اعتبرت قرار مجلس الأمن انحرافا خطيرا، وأعلنت رفضها الانخراط في أي مفاوضات تبنى على مبادرة الحكم الذاتي المغربية التي أقرها القرار. رغم أن القرار لم يبق على طاولة المفاوضات خيار الاستفتاء على الانفصال كما دافعت عنه البوليساريو منذ عام 1975، فإن ممثل الجبهة في الأمم المتحدة أعاد التأكيد على أن هذا القرار لا يعني، في نظره، إقرارا بالسيادة المغربية على الصحراء. كما أصدرت جبهة البوليساريو بيانا قالت فيه إنها لن تشارك في “أي عملية سلام أو مفاوضات تستند إلى مقترحات تهدف إلى إضفاء الشرعية على الاحتلال العسكري المغربي”.
وتبعا لذلك، قامت قيادة البوليساريو بتنظيم في سلسلة زيارات خارجية مكثفة شملت الجزائر وموريتانيا وبعض الدول الإفريقية واللاتينية، وذلك في محاولة الجبهة تعويض خسارتها في مجلس الأمن عبر إعادة تثبيت تحالفات قديمة في مواجهة الزخم الدبلوماسي المغربي، وتعبئة دعم سياسي ورمزي يخفف من وطأة العزلة التي فرضها القرار الأممي.
لكن بالرغم من خطاب الرفض، من المستبعد أن تنتقل البوليساريو إلى خيار التصعيد العسكري، نظرا لاختلال ميزان القوى العسكري لصالح المغرب، حيث لا تستطيع البوليساريو في وضعها الحالي أن تحدث أي تغيير في الوضع القائم الذي رسخه المغرب خلال السنوات الأخيرة. كما أن البوليساريو ستكون حذرة من الإقدام على أي تصرف من شأنه أن يسبب عقوبات أمريكية عليها، لاسيما في ظل وجود مشروع قانون داخل الكونجرس الأمريكي قدم شهر يونيو 2025، يهدف إلى تصنيف جبهة البوليساريو منظمة إرهابية أجنبية، الأمر الذي قد يشكل رادعا إضافيا.
لماذا لا يكفي القرار 2797 وحده؟
يعد هذا القرار محطة مفصلية في مسار نزاع الصحراء، يفتح الباب أمام فرصة سياسية وقانونية لتثبيت مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد وواقعي للنزاع. غير أنه لا يعني نهاية المسار، بل بداية مرحلة جديدة، تتطلب عملا ديبلوماسيا مكثفا على مستويات عدة. يمكن تصنيف الفرص والتحديات ضمن ثلاثة مستويات رئيسية تتفاعل فيما بينها.
على المستوى الدولي، تقع على عاتق الدبلوماسية المغربية مسؤولية في العمل على تحصين هذا المكسب الدبلوماسي، وفي الوقت نفسه استثماره لتوسيع قاعدة الاعترافات الدولية بمقترح الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية. وتمثل هذه المحطة فرصة لصناع القرار في الرباط لتأكيد فعالية المقاربة التي اتبعها المغرب خلال السنوات القليلة الماضية في تدبير ملف الصحراء، والتي تعتمد أساسا على تعزيز العلاقات مع القوى الدولية وبناء تحالفات الدعم، بما في ذلك توالي الاعترافات الدولية بسيادة المغرب على الصحراء. وقد كان للقرار الأمريكي في دجنبر 2020 بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، بالإضافة إلى سياسة “فتح القنصليات” الأجنبية في العيون والداخلة دور أساسي في الدفع بهذا النهج. ومن المرجح أن يستثمر المغرب هذا الزخم لإقناع دول أخرى، لا سيما الأوروبية، بالاعتراف بسيادته على الصحراء، بالإضافة إلى جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية وفتح قنصليات جديدة في الإقليم. علاوة على ذلك، سيعمل المغرب على تحصين المكاسب الميدانية من خلال تأمين المعابر التجارية عبر الصحراء وتوسيعها، وجعلها أحد أدوات الدبلوماسية المغربية، لا سيما مع الدول الأوروبية المستفيدة تجاريا من هذه المعابر. كما يسعى المغرب لوضع إقليم الصحراء في قلب الاستراتيجيات الدولية، وعلى رأسها مبادرته الأطلسية واستراتيجيته تجاه منطقة الساحل والصحراء.
على المستوى الإقليمي، يبدو أن المغرب سيواصل البحث عن فتح قنوات تواصل مباشرة وغير مباشرة مع الجزائر، في إطار جهود الوساطة التي تقوم بها بعض الدول، لا سيما الولايات المتحدة. ومن الراجح أن تواجه هذه المساعي بعض الصعوبات، نظرا لتعقيد العلاقات الثنائية بين المغرب والجزائر، وارتباطها بعوامل تاريخية وسياسية متراكمة. غير أن هذه الجهود الديبلوماسية قد تفضي إلى التوصل إلى بعض الأهداف القصيرة المدى، مثل البدء في ترتيبات أولية لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين التي انقطعت منذ 2021، وتخفيف التوتر عبر رسائل التطمين المتبادلة التي قد تتعزز بقنوات حوار غير الرسمية تهدف لبناء تدريجي للثقة بين البلدين.
غير أن التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين يبقى هدفا بعيد المدى، إلا أنه يظل ممكنا إذا تحولت نافذة الفرص الحالية إلى مسار تدرجي لبناء الثقة، وهو مسار يقتضي جهدا مستمرا وصبرا دبلوماسيا طويل النفس. وهو ما يعكسه دعوات العاهل المغربي المستمرة للرئيس الجزائري إلى “حوار أخوي صادق” لبناء علاقات جديدة بين البلدين. كما أكد وزير الخارجية المغربي أيضا على أهمية إجراء مفاوضات مباشرة بين البلدين، وأنهما لا يحتاجان في حقيقة الأمر إلى وساطة أطراف ثالثة. وفي ظل غياب أي مؤشرات حالية تشير إلى بوادر تطبيع كامل للعلاقات بين البلدين، فإن من شأن هذه التصريحات والرسائل الودية أن تخفف التوتو نسبيا، وتحافظ على الوضع القائم.
أما على المستوى الداخلي، فقد شرعت الدولة في إعداد نسخة جديدة ومفصلة من مقترح الحكم الذاتي، وقد عقد يوم 10 نوفمبر 2025 اجتماع جمع مستشاري الملك بزعماء الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، لمناقشة الصيغة الجديدة لمبادرة الحكم الذاتي. ويعكس هذا الاجتماع إدراكا رسميا بأن هذه اللحظة السياسية تتطلب تعبئة داخلية واسعة وتوافقا مؤسساتيا حول النسخة الثانية المفصلة من مقترح الحكم الذاتي، وكيفية تفعيله عمليا.
وقد أسهم هذا القرار الأممي داخليا في تعزيز الإجماع الوطني حول هذا الملف، حيث انطلقت منذ الأيام الأولى لصدور هذا القرار، حملة واسعة لتنظيم فعاليات ثقافية وسياسية للتعريف بأهمية القرار باعتباره تحولا سياسيا تاريخيا وبناء رأي عام داخلي داعم للمرحلة المقبلة. وتبرز، في هذا الإطار، أهمية تهيئة المناخ السياسي والنفسي لاستقبال الصيغة المحدثة للحكم الذاتي وتعزيز النقاش العمومي حول نماذج الحكم الممكنة.
|
نماذج مقارنة للحكم الذاتي: الدروس الممكنة للمغرب عند العودة إلى النسخة الأولى من مبادرة الحكم الذاتي المغربية، التي تشير في الفقرة 11 إلى استلهامها من الأحكام الدستورية المعمول بها في الدول القريبة جغرافيا وثقافيا من المغرب، يبدو أن السياق المغربي يقترب أكثر من التجربة الإسبانية، مع إمكانية الاستفادة جزئيا من التجربة الإيطالية. يمكن للمغرب أن يستلهم النموذج الإسباني للحكم الذاتي، إذ يقوم هذا النظام على مقاربة تفاوضية داخل دولة موحدة، توفق بين الاعتراف بخصوصيات الجهات والحفاظ على وحدة الدولة. كما يتميز بوجود مؤسسات محلية منتخبة وصلاحيات واسعة في مجالات محددة، مع احتفاظ الحكومة المركزية بالاختصاصات السيادية. ويتيح الدستور الإسباني نظام حكم ذاتي غير متماثل، حيث تتمتع بعض الجهات بصلاحيات أوسع من غيرها تبعا لخصوصياتها التاريخية والثقافية والسياسية. أما من حيث الإطار الدستوري وعدد الجهات التي يمكن أن تحظى بالحكم الذاتي، فإن التجربة الإيطالية تقدم نموذجا مفيدا. فإذا كان الدستور الإسباني يقوم على دولة الجهات المستقلة باعترافه لجميع الجهات بالحكم الذاتي، وإن تفاوتت اختصاصاتها، فإن الدستور الإيطالي يعترف في المادة 116 بحكم ذاتي لخمس جهات فقط. ويمكن للمغرب الاستفادة من هذه المقاربة الدستورية دون تخصيص جهة أو جهات محددة بالحكم الذاتي. إذ يمكن إضافة عبارة “وجهات الحكم الذاتي التي يمكن إنشاؤها” إلى المادة 135 من الدستور، التي ينص فيها على أن “الجماعات الترابية للمملكة هي الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات”، بما يتيح الاحتفاظ بمرونة تمنح إمكانية توسيع الحكم الذاتي مستقبلا حسب الظروف السياسية والتاريخية والثقافية لكل جهة. |
الفرص والقيود البنيوية
على الرغم من أن القرار 2797 يعزز مكانة المغرب السياسية والتفاوضية، غير أنه لا ينهي النزاع، لأنه يرتبط ببنية إقليمية معقدة، تجعل استثمار هذا التحول مشروطا بوجود بيئة إقليمية مساعدة. مع ذلك يفتح هذا القرار نافذة فرصة محدودة زمنيا يمكن البناء عليها، إذا جرى التعامل معها بواقعية وبفهم للعوائق البنيوية التي لا تزال تتحكم في ديناميات النزاع. وهو ما يمكن تفسيره بثلاثة عوائق أساسية.
أولا، يرجع إلى إرث الحدود، حيث تعود جذور الأزمة البنيوية بين الجزائر والمغرب إلى السنوات الأولى من استقلال البلدين، بسبب الخلاف حول ترسيم الحدود الموروثة عن الاستعمار، وهو ما أدى إلى أحداث مؤلمة بين البلدين، أبرزها حرب الرمال سنة 1963، ثم قيام السلطات الجزائرية في عهد الرئيس هواري بومدين بطرد آلاف المغاربة من الجزائر يوم عيد الأضحى سنة 1975، ردا على” المسيرة الخضراء “التي نظمها المغرب في شهر نوفمبر من نفس السنة لاستعادة إقليم الصحراء.
ثانيا، بسبب استثمار النظام الجزائري في قضية الصحراء ماليا وديبلوماسيا لفترة طويلة، بحيث أصبحت قضية الصحراء تشكل عنصرا في مشروعية النظام الجزائري، بالتالي يصعب عليه تغيير موقفه جذريا وسريعا. ويمكن تفسير الموقف الجزائري بما يسمى” مغالطة الكلفة الغارقة“(Sunk Cost Fallacy) والتي تبين سبب استمرار الأفراد أو الدول اتباع مسار خاطئ أو مكلف لمجرد أنهم أنفقوا عليه موارد كثيرة في الماضي، ولا يستطيعون التراجع عنه بسهولة، لأن أي تغيير جذري قد يفسر داخليا باعتباره تنازلا أو اعترافا بفشل تاريخي.
ثالثا، يشكل الاستثمار المتبادل في الخوف أحد أهم العوائق أمام أي تقدم في ملف الصحراء. ففي الجزائر، جرى ترسيخ صورة المغرب كـ “عدو كلاسيكي” تستخدم لتماسك السلطة داخليا. ويؤكد هذا سلسلة التصريحات الرسمية التي تصف المغرب بأنه تهديد حقيقي للجزائر، سواء من الناحية العسكرية، أو كمصدر للمخدرات، أو قناة لاختراق إسرائيلي للمنطقة.
وفي المقابل، ينظر المغرب إلى الجزائر بوصفها الداعم الأساسي والمستمر للتيار الانفصالي، ودولة توظف نفوذها السياسي والعسكري والمالي لتعطيل أي حل نهائي لنزاع الصحراء. كما يقرأ المغرب مواقف الجزائر باعتبارها امتدادا لعقيدة إقليمية ترى في صعود المغرب إقليميا تهديدا لمكانتها الاستراتيجية.
هذا الوضع يعيد إنتاج حلقة مفرغة من الخوف المتبادل، مما يجعل بناء الثقة حتى في حدها الأدنى أحد أكثر التحديات تعقيدا في المرحلة المقبلة.
ورغم هذه العوائق، إلا إن التطورات الإقليمية والدولية الراهنة قد توفر نافذة فرصة سياسية يمكن أن تحدث اختراقات محدودة، ولو تدريجية. وتستند هذه الفرصة إلى عدة عناصر، أبرزها الإصرار الواضح من الإدارة الأمريكية الحالية – لدوافع شخصية واقتصادية وجيوسياسية- على دفع البلدين نحو تهدئة سياسية جزئية بين البلدين، قد يسهم في تليين المواقف على الأقل جزئيا. ويعزز هذه الفرصة تحسن العلاقات بين الجزائر وواشنطن في الأشهر الماضية، علاوة على وجود نوع من الفتور في علاقة الجزائر بموسكو. ومن هنا فإن الوساطة الأمريكية قد تحقق بعض النتائج المتوقعة، وفي مقدمتها بدء تواصل مباشر بين البلدين والشروع في إجراءات إعادة العلاقات الدبلوماسية.
وأما المغرب فإن من مصالحه الحيوية – المرتبطة بقضية الصحراء وأيضا المصالح الاقتصادية والأمنية – ستجعله يواصل النهج الدبلوماسي ذاته فيما يسمى سياسة اليد الممدودة.
خاتمة
يمثل قرار مجلس الأمن رقم 2797 منعطفا استراتيجيا في مسار نزاع الصحراء، بما يحمله من دلالات سياسية مهمة تعيد توجيه بوصلة هذا الملف وتعزز التموضع الإقليمي للمغرب. فاعتماد مجلس الأمن لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، والذي يعكس ديناميات القوة والنفوذ في النظام الدولي وتوازنات القوى الإقليمية الحالية، لا يكرس تفوق المقاربة المغربية فحسب، بل يحدد أيضا مسارا تفاوضيا جديدا ستكون له انعكاسات بعيدة المدى ليست فقط على قضية الصحراء، بل من شأنه أيضا أن يساهم في إعادة تشكيل علاقات الأطراف المعنية بهذه القضية وبنية النظام الإقليمي.
ومن شأن استثمار هذه اللحظة السياسية من قبل المغرب، وفق رؤية استراتيجية واضحة، أن يعزز موقعه كفاعل إقليمي مستقر وقادر على التأثير في بيئته المباشرة. وعلاوة على ذلك، يتيح هذا القرار فرصة لإعادة بناء جسور الثقة على المستوى المغاربي، في حال نجحت جهود الوساطة التي تقودها إدارة ترامب، رغم أن ثقل تاريخ العلاقات المغربية-الجزائرية، والاستحقاقات السياسية للمغرب مع بعض حلفائه قد يبطئ تحقيق هذا الهدف.
وتبرز أهمية هذا التحول أيضا في كونه يفتح مرحلة جديدة تتطلب الانتقال من المعادلة الصفرية إلى مقاربة رابح-رابح. لذلك يمكن القول باختصار، أن القرار 2797 لا يمثل نهاية مسار بقدر ما يشكل بداية مرحلة جديدة لإعادة صياغة حل سياسي مستدام لنزاع طال أمده.



