الأبحاثحرية الصحافة: الإجراءات التقنية لا تكفي

رغم قيام الحكومة المغربية بإجراءات (تقنية) لضمان حرية الصحافة، إلا أن بعض الممارسات تكشف استمرار قيود تحد من حرية الصحفيين
سامي المودني سامي المودني26/12/202417549 min

[vc_row][vc_column][vc_column_text]

رغم قيام الحكومة المغربية بإجراءات (تقنية) لضمان حرية الصحافة، إلا أن بعض الممارسات تكشف استمرار قيود تحد من حرية الصحفيين

 

تحميل المقال

 

مقدمة

في شهر شتنبر سنة 2019، قدمت الحكومة المغربية، تقريرها المرحلي الخاص بمتابعة تنفيذ التوصيات المنبثقة عن الجولة الثالثة من آلية الاستعراض الدوري الشامل، إلى مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة. الحكومة أوردت في تقريرها مختلف المبادرات والإجراءات التي تم اتخاذها في مجال حقوق الإنسان ومن بينها حماية حرية الصحافة. وقد جاء تقديم التقرير في إطار تنفيذ وتنزيل التوصيات المقبولة من طرف المغرب، التي تم تقديمها للمملكة سابقا خلال الاستعراض الدولي الشامل المنعقدة دورته الثالثة في شتنبر 2017، عندما تلقت الحكومة المغربية 8 توصيات ذات صلة بتعزيز حرية الرأي والتعبير من أصل 244[i].

ويبدو من الوهلة الأولى أن التقرير الحكومي قدم إجابات مستفيضة فيما يخص تعزيز حرية الرأي والتعبير، إلا أن إلقاء نظرة معمقة، يظهر أن جواب الحكومة ركز في عمومه على إجراءات ذات “طبيعة تقنية” حول جهودها في تعزيز وحماية حرية الرأي والتعبير، باعتبار أنها ترفض تعديلات أساسية تضمن حرية الصحافة، لاسيما التوصيات المتعلقة بعدم متابعة الصحفيين بالقانون الجنائي في قضايا النشر.

ويعد الاستعراض الدولي الشامل فرصة للدول “لكي تعلن الإجراءات التي اتخذتها لتحسين أوضاع حقوق الإنسان في بلدانها وللوفاء بالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان”[ii]، ومن هنا فإن تقييم تفاعل الحكومة مع آليات الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان مهم لتقييم حرية الصحافة في المغرب واستقراء موقع وأهمية الإعلام في برامج الحكومة. ويمكن تقييم تفاعل الحكومة المغربية مع التوصيات الأممية ذات الصلة بحرية الصحافة فكرة حول تصور الحكومة للسياسات العمومية ذات الصلة بقطاع الإعلام. في الوقت الذي تم قبول 191 توصية من طرف المملكة، من بينها خمسة ذات صلة بالإعلام، تم رفض 3 توصيات لها علاقة بحرية الصحافة[iii]، تصب في تجاه عدم متابعة الصحافيين بموجب القانون الجنائي في قضايا النشر، وهو ما يمكن اعتباره “تنصلا رسميا” من التزامات حكومية سابقة. أما التوصيات التي قبلتها الحكومة، فإنها تصطدم مع إشكالية التطبيق، إذ لم يكن لها أثر بالغ على حل المشاكل المرتبطة بحرية الصحافة.

 

التوصيات بين القبول والرفض

بالاستناد إلى تقرير الفريق العامل المعني بالاستعراض الدوري الشامل لسنة 2017 الخاص بالمغرب، فإن المملكة تلقت 3 توصيات كلها تصب في اتجاه عدم متابعة الصحافيين بموجب القانون الجنائي عوض قانون الصحافة والنشر في القضايا المتعلقة بممارسة مهامهم، بالإضافة إلى إطلاق سراح المتابعين بتهم ذات صلة بممارسة حرية الرأي والتعبير.

تتضمن التوصية الأولى مطالبة المغرب “بالامتناع عن الاستناد إلى قوانين غير قانون الصحافة عند النظر في المخالفات المرتبطة بحرية التعبير”. أما التوصية الثانية فقد جاء فيها “إنهاء ملاحقة الصحافيين قضائيا بموجب القانون الجنائي بسبب ممارسة حقهم في حرية الرأي والتعبير بالطرق السلمية وبسبب حرصهم على الحق في الوصول إلى المعلومة”. مباشرة بعدها تأتي التوصية الثالثة، وتتضمن مطالبة للمغرب “بإنهاء ملاحقة الصحافيين قضائيا وإطلاق سراحهم إلى جانب أفراد آخرين سجنوا لمجرد ممارستهم حقهم في التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات”[iv].

وقد أدرجت المملكة المغربية التوصيات الثلاث السالفة الذكر ضمن باب التوصيات المرفوضة، مؤكدة عدم تأييدها الإلغاء الكلي لمتابعة الصحافيين بموجب مقتضيات القانون الجنائي، وذلك بمبرر كون “متابعة الصحافيين في قضايا لا تندرج ضمن أداء مهامهم المهنية يجب ألا يخضع للاستثناء المذكور حفاظا على حقوق المواطنين وتحقيقا لمبدأ المساواة أمام القانون”[v].

وفي مقابل التوصيات التي رفضت بشكل كلي من طرف المغرب، تم قبول 5 توصيات لها صلة بحرية الرأي والتعبير. وهي التوصيات التي تم تضمينها في “التقرير المرحلي المتعلق بمتابعة تنفيذ توصيات الجولة الثالثة من آلية الاستعراض الدوري الشامل” الصادر عن وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والعلاقات مع المجتمع المدني،[vi] والذي عرض مجهودات وإجراءات الحكومة فيما يتعلق بتنفيذها. وهي الإجراءات التي ستتوقف عنها هذه الورقة بهدف تقييم مدى توافقها مع المواثيق والآليات الدولية في مجال حقوق الإنسان. وقد ركزت التوصيات الخمسة المقبولة أساسا على ضمان احترام أحكام الدستور المتعلقة بحرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، وجعل أحكام القانون الجنائي ملائمة لمقتضيات المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بالإضافة إلى مواصلة العمل على تعزيز حرية التعبير عن طريق تنفيذ القانون المنشئ للمجلس الوطني للصحافة[vii].

كما ركز التقرير الحكومي المرحلي أساسا على 3 محاور ذات علاقة بهذه التوصيات، التأطير القانوني والمؤسساتي لحرية الصحافة والتنظيم الذاتي للمهنة بالإضافة إلى الدعم العمومي الموجه لوسائل الإعلام الوطنية. فيما يخص المحور الأول فقد أكدت الحكومة في تقريرها أن حرية الصحافة “عرفت تطورا مهما على مستوى الضمانات المؤسساتية والقانونية المتعلقة بحقوق الصحافيين والمرتكزة أساسا على مبادئ الحرية والتعددية والاستقلالية والحماية”[viii]. كما أكد التقرير الحكومي بخصوص المحور الثاني أنه تم “تشكيل المجلس الوطني للصحافة باعتباره هيئة مكلفة بصيانة السهر على احترام أخلاقيات المهنة وعلى ضمان الحق لكل صحافي في الإعلام والتعليق والنشر، إضافة إلى تخويله صلاحية منح بطاقة الصحافة المهنية”[ix]. وأخيرا أوضحت الحكومة أنها حريصة على “مواكبة تطور قطاع الصحافة بشقيه الورقي والإلكتروني، وذلك عبر إحداث آليات جديدة للتقييم والتتبع لدعم الصحافة والنشر والطباعة والتوزيع، إذ تم اعتماد مرسوم يتعلق بدعم الصحافة المكتوبة والإلكترونية وكذا مقاولات الطباعة والتوزيع، يتوخى إرساء إطار يرتكز على الحكامة والشفافية في منح الدعم”[x].

 

تأطير قانوني زجري

تعتبر مسألة رفض الحكومة التوصيات المتعلقة بعدم متابعة الصحافيين بموجب القانون الجنائي بخصوص قضايا تتعلق بأداء مهامهم المهنية أهم نقطة تثير مخاوف الصحفيين والحقوقيين. فقد تم التعبير عن هذه المخاوف خلال الفترة التي شهدت مناقشة قوانين مدونة الصحافة والنشر قبل إقرارها بشكل رسمي في شهر غشت سنة 2016[xi]، لاسيما في الشق المتعلق بوجود “جسر” ما بين قانون الصحافة والقانون الجنائي، إذ نص قانون الصحافة والنشر في مادته 17، على أنه “لا تسري أحكام القوانين الأخرى على كل ما ورد فيه نص صريح في مدونة الصحافة والنشر”[xii]، فحماية الصحافيين من المحاكمة بموجب القانون الجنائي في قضايا النشر لم تكن واضحة في المادة المشار إليها، والتي تمت صياغتها بعبارات فضفاضة بشكل يبقي على الجسر بين قانون الصحافة والقانون الجنائي في قضايا النشر.

إن الرغبة في تعويض قانون الصحافة والنشر بالقانون الجنائي، تؤكده فقرة واردة في تقرير الحكومة المرحلي بخصوص الجولة الثالثة من الاستعراض الدولي الشامل والتي جاء فيها أن القانون “لا يمنح للصحافيين الاستثناء من المتابعة كباقي المواطنين في قضايا لا تندرج ضمن أداء مهامهم، أو في قضايا تمس بالثوابت الجامعة للأمة كالإساءة للدين الإسلامي أو النظام الملكي أو التحريض ضد الوحدة الترابية للمملكة وبالأمن والاستقرار، على غرار القضايا المتعلقة بالإشادة بالإرهاب”[xiii]، وذلك بالرغم من أن التهم المشار إليها هنا واردة في القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر.

كما أن ربط الحكومة في تقريرها المرحلي بين تعزيز حرية الصحافة مع وجوب “تحقيق المساواة بين المواطنين أمام القانون”، يؤكد المنحى المتعلق في متابعة الصحافيين بموجب قانون الجنائي عوض قانون الصحافة في بعض القضايا التي لها علاقة بالنشر. فمساواة المواطنين أمام القانون تعني بما أنه يمكن متابعة مواطنين عاديين بموجب القانون الجنائي في قضايا مثل السب والقذف والتشهير وغيرها، فإنه أيضا يمكن أن يتابع صحافيون بفصول من نفس القانون.

ورغم أن الحكومة أكدت على تجاوبها مع توصية ملاءمة القانون الجنائي مع مقتضيات المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إلا أنها ركزت على القيود الواردة في فقرتها الثالثة والتي تنص على “احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم وحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”[xiv]. في المقابل، تجدر الإشارة إلى أن المعايير الأممية تعتبر أن هذه الاستثناءات ليست مطلقة ولا يمكن استخدامها إلا في نطاق ضيق ومحدد، وهذا ما انتبهت له اللجنة المعنية بحقوق الإنسان سنة 2011 في تعليقها العام رقم 34 الذي يفسر المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إذ وضعت عددا من الشروط الدقيقة التي تبيح اللجوء إلى الاستثناءات المشار إليها، حتى لا تتحول إلى قاعدة يمكن أن تستعمل للتضييق على ممارسة حرية الرأي والتعبير[xv].

في مقابل هذه المقاربة الزجرية في التعامل مع جرائم الصحافة والنشر، وضعت الحكومة إجراءات لحماية الصحافيين، لا سيما تفعيل آلية الشكايات في حالات الاعتداء على الصحافيين أثناء مزاولة عملهم، حيث عملت الحكومة على  ” إحداث وحدة على مستوى قطاع الاتصال لتلقي الشكايات وتتبعها ومعالجتها”[xvi]. جرى الإعلان عنها بشكل رسمي عندما أصدرت وزارة الثقافة والاتصال -قطاع الاتصال- تقريرا مفصلا سنة 2019 حول مؤشرات حرية الصحافة في المغرب[xvii]. والواقع أن هذه الوحدة التي تشير إليها الحكومة لا يعلم بشأنها الصحافيون الكثير من التفاصيل، كما أنها لم تتواصل مع الصحفيين بشكل جيد بهذا الخصوص، لا سيما عبر تقديم التقارير الإدارية الصادرة عنها والمؤشرات الرقمية بخصوص التجاوزات المرتبكة ضد الصحافيين والإجراءات المتخذة من أجل حمايتهم.

أما المؤشر الثاني فيتمثل في سعي الحكومة الحالية مباشرة بعد تنصيبها إلى تقديم مشروع قانون رقم 71.17 يقضي بتغيير وتتميم القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، الذي تضمن تعديلات يراد من خلالها نسخ مواد في قانون الصحافة وترك تنظيمها للقانون الجنائي[xviii]، وهو ما قد يفتح المجال أمام متابعة الصحافيين بموجب القانون الجنائي في قضايا متعلقة بالنشر، والذي لا يقتصر على الغرامات بل يتجاوزه إلى العقوبات السالبة للحرية. فعلى سبيل المثال نص هذا المشروع على نسخ مقتضيات قانونية من قانون الصحافة والنشر كالتحريض على الكراهية أو التمييز… و”جريمة إهانة رجال ونساء القضاء والموظفين العموميين ورؤساء أو رجال القوة العمومية أو هيئة منظمة”، وهو ما طرح تخوفات لدى الصحفيين حول اللجوء إلى مقتضيات القانون الجنائي لمتابعة الصحافيين في قضايا النشر بغطاء قانوني فضفاض[xix]. وقد تم تقديم مشروع القانون المذكور أمام لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب يوم 20 مارس 2018، بغرض المناقشة والمصادقة عليه، لكن النقاش والجدل بشأن مقتضياته أدى إلى تجميده منذ ذلك التاريخ إلى اليوم (يناير 2020).

والحقيقة أن التخوفات التي عبر عنها الصحفيون تجد مبررها من خلال استمرار متابعة الصحافيين قضائيا بموجب قوانين خارج مدونة الصحافة في قضايا النشر، مثل محاكمة أربعة صحافيين مغاربة بتهمة تسريب معطيات وأخبار تتعلق بلجنة تقصي الحقائق في البرلمان، حيث أصدرت المحكمة الاستئناف في الرباط بتاريخ 23 دجنبر 2019 حكما بالسجن ستة أشهر غير نافذة في حقهم، وغرامة مالية قيمتها 10 آلاف درهم، وهي المحاكمة التي قال مصطفى الخلفي، الوزير السابق المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، إنه وجد صعوبة في الاقتناع بها، “لكون القضية تتعلق بعملية نشر أخبار، حيث الأولى اللجوء إلى متابعة الصحافيين بقانون الصحافة والنشر وليس بالمقتضيات الواردة في القانون التنظيمي للجن تقصي الحقائق”[xx].

 

التنظيم الذاتي للمهنة والدعم العمومي

تعتبر الحكومة أن تشكيل المجلس الوطني للصحافة يعتبر من ضمن الضمانات المؤسساتية لحرية الصحافة في المغرب. وبالرغم من أن هذا المجلس الجديد يعتبر “هيئة مكلفة بالسهر على احترام أخلاقيات المهنة، وعلى ضمان الحق لكل صحافي في الإعلام والتعليق والنشر “[xxi]، إلا أن تقييم عمله أمر سابق لأوانه، باعتبار أنه تأسس قبل فترة وجيزة ولم يتمكن من ممارسة كل صلاحياته. فقد تم انتخاب أعضاءه في يونيو 2018، ولا زال القانون الداخلي للمجلس لم ينشر بعد في الجريدة الرسمية (يناير 2020)، الأمر الذي يعرقل من ممارسة صلاحياته بشكل كامل خصوصا في الشق المتعلق بتنظيم المهنة والوساطة والتحكيم في القضايا المتعلقة بالأخلاقيات والمطروحة بحدة مع الثورة الرقمية والتكنولوجية.

كما أن إصدار المجلس “للميثاق الوطني لأخلاقيات مهنة الصحافة” – والذي قدمته الحكومة باعتباره إجراء يهدف إلى توفير الشروط الكفيلة بإرساء حرية الصحافة- تلقى انتقادات من طرف جمعيات مهنية للصحفيين، حيث اعتبر المنتدى المغربي للصحافيين الشباب أن الميثاق تضمن موادا صيغت بطريقة تجعلها “أحكاما زجرية”، أكثر منها ضوابط أخلاقية، لاسيما وأنها كتبت بشكل فضفاض يقبل تأويلات متعددة[xxii]. بالإضافة إلى أنه لم يأخذ بعين الاعتبار عددا من التطورات الرقمية والتكنولوجية والاجتهادات الدولية ذات الصلة بحرية وأخلاقيات مهنة الصحافة. بالرغم من ذلك، يبقى الميثاق خطوة إلى الأمام لاسيما وأن عملية تجويد النص تبقى مفتوحة في المستقبل.

وبالإضافة إلى التنظيم الذاتي للمهنة، تضمن التقرير الحكومي عددا من الفقرات المتعلقة بالدعم العمومي الموجه إلى الصحف والمواقع الإلكترونية. وقد أشار مثلا إلى المرسوم المتعلق بدعم الصحافة والنشر والطباعة والتوزيع الصادر في مارس 2019، الذي يروم إرساء إطار قانوني يرتكز على الحكامة والشفافية في منح الدعم العمومي للقطاعات ذات الصلة[xxiii]. إلا أن الدعم العمومي في الحقيقة لم يساهم في تأهيل المقاولات الإعلامية بشكل يمكن من توفير بيئة ملائمة لتطور مشهد إعلامي مستقل ومتعدد، وهي خلاصة أشار إليها التقرير السنوي الصادر عن المجلس الأعلى للحسابات برسم سنتي 2015 و2016، الذي كشف أن “الأموال التي تقدمها الدولة للصحف لا تذهب بالأساس إلى تأهيل هذه المقاولات وإنما لصرفها في أمور تسييرية محضة”[xxiv].

وحتى الدعم الموجه إلى الإعلام السمعي البصري العمومي يكتنفه الغموض، فمن جهة يتم إلزامه بالتقيد بالمقتضيات الواردة في دفاتر التحملات والتي تؤكد على تقديم خدمة عمومية قائمة على معايير الجودة والمهنية والتنوع والتنافسية، ومن جهة ثانية نجد أن الوضعية المالية للإذاعات والقنوات الرسمية لا تساعدها على الوفاء بهذه الالتزامات.

فحرية الصحافة لا تتحقق بالنسبة للإعلام التابع لمؤسسات الدولة إلا عبر الالتزام بمبادئ الخدمة العمومية، وهذه الأخيرة لها كلفة مالية بالنظر إلى وظيفتها المحورية التي تتجلى أساسا في منح المواطنين أكبر قدر ممكن من المعلومات ذات الجودة، من أجل تمكينهم من لعب دور نشط في الحياة السياسية والمساهمة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلا عن ممارسة دورهم في الرقابة على الشأن العام.

وتقدم وضعية القناة الثانية التابعة للقطب العمومي مثالا حيا على هذه المسألة، إذ أنها توجد في وضعية مالية لا تساعدها على الوفاء بالتزاماتها الواردة في دفتر تحملاتها. فوفق موقع “ميديا 24” الناطق باللغة الفرنسية، فإن الخسائر المتراكمة على شركة صورياد-دوزيم ناهزت 720 مليون درهم، أي ما يعادل ضعف رأسمال الشركة المقدر بـ 359 مليون درهم[xxv]. ومن أجل تجاوز هذا الواقع قررت الجمعية العمومية لصورياد-دوزيم بتاريخ 31 دجنبر 2016، الزيادة في رأسمالها وهو الأمر الذي لم يتم بسبب عدم التزام الدولة بدفع حصتها ليتكرر نفس السيناريو في شهر يونيو 2018[xxvi]. هذا الوضع يجعل القناة الثانية رهينة المداخيل الإشهارية ما يؤثر سلبا على مدى التزامها بمبادئ الخدمة العمومية.

هذا الترابط الوثيق بين مبادئ الخدمة العمومية المحققة لحرية الصحافة والدعم المالي المخصص للإعلام السمعي البصري المملوك للدولة، لم يتضمنه التقرير المرحلي المتعلق بمتابعة تنفيذ توصيات الجولة الثالثة من آلية الاستعراض الدوري الشامل، وتم الاكتفاء فقط باستعراض توجهات عامة تخص معايير الدعم العمومي وإجراءات تخص تعزيز مبادئ التعددية.

 

 خلاصة وتوصيات

إذا كانت المملكة المغربية قد حققت تقدما فيما يتعلق بملاءمة قوانينها الوطنية مع المواثيق الدولية ذات الصلة بمجالات حقوق الإنسان، فإن ممارستها الاتفاقية فيما يخص “حرية الإعلام” مازالت لم تحقق تطلعات الصحفيين المهنيين وممثليهم والجمعيات الحقوقية.

إن وجود “جسر” يؤدي بالصحافي إلى المثول أمام المحاكم بموجب القانون الجنائي بتهم لها علاقة بالنشر، يفرض تعديل قانون الصحافة بشكل ينهي مع هذا النوع من المتابعات. كما أن الوحدة التي أنشأتها وزارة الاتصال من أجل استقبال شكايات الصحافيين بشأن حوادث الاعتداء عليهم تبدو غير فعالة، ومن هنا يمكن وضع آليات أكثر فعالية من أجل حماية الصحافيين، من قبيل إحداث آلية حمائية داخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان أو إنشاء لجنة تضم ممثلين عن قطاعات حكومية معنية والجمعيات المهنية المشتغلة في القطاع. وتشكل الجولة الرابعة من الاستعراض الدولي الشامل سنة 2022، محطة امتحان جديدة أمام المجتمع المدني الوطني والدولي من أجل تشجيع الحكومة على قبول توصيات تنحو في هذا الاتجاه.

ويجب أن تكون عملية “محاسبة الصحافيين” بشأن أي خرق مفترض لأخلاقيات مهنة الصحافة متروكة للمهنيين من خلال المجلس الوطني للصحافة بدرجة أولى، وهذا ما يفترض اعتماد قراءة حقوقية لمضامين “الميثاق الوطني لأخلاقيات مهنة الصحافة”، وتعزيز استقلالية المجلس الوطني للصحافة، والإسراع في نشر قانونه الداخلي في الجريدة الرسمية حتى يتسنى له ممارسة صلاحياته المنصوص عليها في القانون المنظم له.

كما أن الإطار المؤسساتي والتنظيم الذاتي الضامن لحرية الصحافة وفقا للمعايير الدولية لا ينفصل عن الدعم العمومي الموجه للإعلام. ومن هنا لا ينبغي فقط الرفع من المخصصات المرصودة له في الميزانية، ولكن أيضا ربطه بجودة المنتوج المقدم للمواطن.

 

الهوامش

[i] مجلس حقوق الإنسان (الدورة 36)، الاستعراض الدولي الشامل (الجولة الثالثة)، تقرير الفريق العامل المعني بالاستعراض الدولي الشامل (المغرب)، 29 شتنبر 2017، الصفحات: 22 و23 و32، (أرقام التوصيات المقبولة: 114 و115 و116 و117 و244، أرقام التوصيات المرفوضة: 113 و118 و119).

[ii] الأمم المتحدة مجلس حقوق الإنسان، الاستعراض الدولي الشامل، رابط الصفحة: https://2u.pw/hjGzT، تاريخ الاطلاع: 1 دجنبر 2019.

[iii] مجلس حقوق الإنسان (الدورة 36)، الاستعراض الدوري الشامل (الجولة الثالثة)، تقرير الفريق العامل المعني بالاستعراض الدوري الشامل (المغرب): آراء بشأن الاستنتاجات و/أو التوصيات، والالتزامات الطوعية والردود المقدمة من الدولة موضع الاستعراض، 29 شتنبر 2017، الصفحات 3 و4 و7.

[iv] مجلس حقوق الإنسان (…)، تقرير الفريق العامل المعني بالاستعراض الدولي الشامل (المغرب)، ص 22 وص23.

[v] مجلس حقوق الإنسان (….)، آراء بشأن الاستنتاجات و/أو التوصيات، والالتزامات الطوعية والردود المقدمة من الدولة موضع الاستعراض، 29 شتنبر 2017، ص7.

[vi] مجلس حقوق الإنسان (…)، تقرير الفريق العامل المعني بالاستعراض الدولي الشامل (المغرب)، مرجع سابق.

[vii] نفس المرجع السابق.

[viii] وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، التقرير المرحلي المتعلق بمتابعة تنفيذ توصيات الجولة الثالثة من آلية الاستعراض الدوري الشامل، الموقع الرسمي للوزارة، رابط التحميل: https://2u.pw/HnRbQ، تاريخ التحميل: 04 دجنبر 2019. ص 11.

[ix] نفس المرجع السابق.

[x] نفس المرجع السابق.

[xi] الجريدة الرسمية، عدد 6491، 15 غشت 2016، ظهير شريف رقم 1.16.122 صادر في 10 غشت 2016 بتنفيذ القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، ص 5969، الموقع الرسمي للأمانة العامة للحكومة، رابط التحميل: https://2u.pw/Ll40c، تاريخ التحميل: 19 نونبر 2019.

[xii] نفس المرجع السابق.

[xiii] (…)، التقرير المرحلي المتعلق بمتابعة تنفيذ توصيات الجولة الثالثة من آلية الاستعراض الدوري الشامل (..)، مرجع سابق، ص 21.

[xiv] نفس المرجع السابق، ص20.

[xv] الأمم المتحدة (اللجنة المعنية بحقوق الإنسان)، الدورة الثانية بعد المائة، جنيف: 11-29 يوليوز 2011، التعليق العام رقم 34: المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

[xvi] (…)، التقرير المرحلي المتعلق بمتابعة تنفيذ توصيات الجولة الثالثة من آلية الاستعراض الدوري الشامل (..)، مرجع سابق، ص 21.

[xvii] موقع القناة الثانية، وزارة الثقافة والاتصال تصدر تقريرا حول مؤشرات حرية الصحافة في المغرب، 12 شتنبر 2019 رابط المقال: https://2u.pw/XaeC3، تاريخ التصفح: 04 دجنبر 2019.

[xviii] وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، بلاغ انعقاد الاجتماع الأسبوعي لمجلس الحكومة يوم 02 نونبر 2017، ص 3، رابط التحميل: https://2u.pw/q1lgM، تاريخ التحميل: 19 نونبر 2019.

[xix] مشروع قانون رقم 71.17 يقضي بتغيير وتتميم القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، ص 3/6.

[xx] خالد فاتيحي، كيف تعزز خطة الديمقراطية وحقوق الإنسان الضمانات القانونية لحماية الصحفيين؟، موقع حزب العدالة والتنمية، 20 يوليوز 2019، رابط المقال: https://2u.pw/B9ezz، تاريخ التصفح: 22 نونبر 2019.

[xxi] (…)، التقرير المرحلي المتعلق بمتابعة تنفيذ توصيات الجولة الثالثة من آلية الاستعراض الدوري الشامل (..)، مرجع سابق، ص 48.

[xxii] المنتدى المغربي للصحافيين الشباب، بلاغ صادر بتاريخ 16 غشت 2019، رابط البلاغ: https://2u.pw/DET9v

[xxiii](…)، التقرير المرحلي المتعلق بمتابعة تنفيذ توصيات الجولة الثالثة من آلية الاستعراض الدوري الشامل (..)، مرجع سابق، ص 49.

[xxiv] عبد الرحيم سموكني، مجلس جطو: دعم الصحف لا يؤهل المقاولات وتقليص المستفيدين وارد، الموقع الإخباري تيل كيل عربي، 27 غشت 2018، رابط المقال: https://2u.pw/t2ZcT، تاريخ التصفح: 12 نونبر 2019.

[xxv] Gh.E., Comment l’arrivée de MBC5 rend vitale la recapitalisation de 2M par l’état, le Site d’information Media24, mis en ligne 12 Novembre 2019, consulté le 16 décembre 2019, URL : https://2u.pw/rJrEt.

 [xxvi] Idem.

[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

سامي المودني

سامي المودني

صحافي ورئيس تحرير بقناة ميدي 1 تيفي الإخبارية. أنجز عددا من التحقيقات المكتوبة والتلفزيونية وأشرف على إخراج وإعداد عدد من الأفلام الوثائقية. حاصل على عدد من الجوائز في الصحافة الاستقصائية من أبرزها جائزة دبي للصحافة العربية سنة 2014. باحث في مجالات حرية الصحافة وأخلاقياتها، وتحليل الخطاب الإعلامي، والتواصل السياسي. الرئيس المؤسس للمنتدى المغربي للصحافيين الشباب وعضو المكتب التنفيذي للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان منذ سنة 2018.