الأبحاثالاصلاحات المؤسساتيةالتخليق الذاتي للقضاء

كيف ستسهم حماية الرأي المخالف في مداولات الهيئات القضائية في التخليق الذاتي للقضاء؟

كيف ستسهم حماية الرأي المخالف في مداولات الهيئات القضائية في التخليق الذاتي للقضاء؟

 

تحميل المقال

 

مقدمة

تتميز عملية اتخاذ القرار داخل عمل الهيئات القضائية بالتعقيد، لا سيما على مستوى مداولات الهيئات القضائية، ومن ثمة هناك حاجة لوضع ميكانيزمات لربط المسؤولية بالمحاسبة وحماية آراء الأقلية وتشجيع الإجتهاد القضائي. وفي هذا السياق يعتبر التعديل الذي تضمنه قانون التنظيم القضائي الجديد من أهم التعديلات التي تسعى لتخليق القضاء في المغرب، والذي دخل حيز التنفيذ ابتداء من منتصف يناير 2023، بعد أن استنفذ كل المساطر التشريعية وصدر بالجريدة الرسمية بتاريخ 14-07-2022 [1]. ومن المستجدات الهامة التي جاء بها قانون التنظيم القضائي[2] إقراره ولأول مرة لحق تسجيل الرأي المخالف في مداولات الهيئات القضائية بمختلف المحاكم المغربية بشكل رسمي.

ستسمح هذه الآلية الجديدة للقضاة  بالعمل على تسجيل رأيهم المخالف لبقية القضاة الآخرين أعضاء هيئة المداولات  عند اتخاذ القرارات القضائية، وهذ من شانه أن يحمي رأي الأقلية داخل هذه المداولات وخاصة في الحالات التي يكون فيها خرق غير مستساغ للقانون ، كما أن من شأن هذه الآلية أن تسهم في عملية التخليق الذاتي للقضاء إذ يعتبر تمسك صاحب الرأي المخالف برأيه بمثابة اثارة انتباه باقي الأعضاء لضرورة مراجعة موفقهم قبل الإعلان عن القرار إن كان الأمر فعلا يحتاج لذلك، كما أنه يساهم في تحديد المسؤوليات بشكل دقيق، لا سيما عند اثارة المساءلة التأديبية وتوفر موجباتها القانونية، بحيث سوف تكون منصبة على مرتكب المخالفة وحده، حيث أزال هذا المقتضى القانوني الجديد الغطاء الذي كان يتمسك به في السابق، أي قرار المداولة الجماعية وسريته . كما أن هذه الالية الجديدة أيضا سوف  تبعت الحيوية في المداولات، مادامت تعلم أن رأيها سيكون لها وجود قانوني منظم عوض ما كان عليه الأمر سابقا  حيث يسود الشعور بالإحباط لديها بسبب عدم القدرة على التأثير والاحساس بعدم أهمية رأيها حتى من ناحية التعبير عنه .

 

  1. تنظيم الرأي المخالف في قانون التنظيم القضائي المغربي

نصت الفقرة الأولى من المادة 16 من قانون التنظيم القضائي المغربي على أن أحكام هيئة القضاء الجماعي تصدر” بالإجماع أو بالأغلبية، بعد دراسة القضية والتداول سرا، وتضمن وجهة نظر القاضي المخالف معللة ، بمبادرة منه ، في محضر سري خاص موقع عليه من قبل أعضاء الهيئة ، يضعونه في غلاف مختوم ، ويحتفظ به لدى رئيس المحكمة المعنية بعد أن يسجله في سجل خاص يحدث لهذه الغاية ، ولا يمكن الاطلاع عليه من قبل الغير إلا بناء على قرار من المجلس الأعلى  للسلطة القضائية”.

وبشكل عام، يتجاذب موضوع الرأي المخالف ، من الناحية التشريعية بشكل عام، اتجاهان أحدهما انجلوسكسوني والثاني فرنسي، حيث يذهب الاتجاه الأول بعيدا  في حماية الأقلية داخل المداولات ، حيث ينص على تضمين آرائهم في نسخة الحكم ذاته، وليس فقط في محضر سري. كما أن بعض الاتجاهات منحت إمكانية الاطلاع على الرأي المخالف لكل ذي مصلحة من خلال سجلات توضع رهن اشارتهم بمقر المحكمة مصدرة الحكم. فيما يعمل الاتجاه الثاني – المعتمد أساسا على منهج التشريع الفرنسي – على مبدأ السرية في المداولات وبالتالي يقطع الطريق أمام كل أمل لمعرفة تفاصيل مداولات الهيئات القضائية على الأقل في الجانب المتعلق بنتيجة القرار القضائي وتعليلاته.

وقد نحى قانون التنظيم القضائي المغربي منحى وسطي بين الاتجاهات أعلاه، حيث حافظت على مبدأ سرية المداولات كما كان عليه الأمر سابقا ومنحت فقط إمكانية للقاضي صاحب الرأي المخالف الحق في تسجيل رأيه المخالف للهيئة التي يعمل معها والتي قد تكون ثلاثية أو خماسية. وفي هذه الحالة الأخيرة يمكن أن نتصور وجود رأيين مخالفين وليس رأي واحد وبالتالي يمكن أيضا تسجيلهما معا في المحضر الذي تنص عليه المادة 16.

وقد امتد مبدأ السرية هذا إلى عدم امكانية معرفة القاضي صاحب الرأي المخالف إلا من طرف الهيئة التي أصدرت القرار دون غيرها من المكونات المشكلة لهيئة المحكمة (النيابة العامة وكتابة الضبط ) ولا من طرف أي أحد آخر داخل المحكمة كبنية إدارية بما فيهم رئيسها، لكون  المحضر السري المتضمن للرأي المخالف يتم كتابته بين الأعضاء داخل المداولة ويتم وضعه في ظرف مغلق يسلم لرئيس المحكمة الذي يسجله كذلك دون الاطلاع عليه في سجل اداري نموذجي خاص ويضعه بمكتبه لمدة عشر سنوات مع تقرير جزاء قانوني قاس لكل إعلان عن مضمونه من طرف المؤتمنين عليه، حيث تم اعتبار ذلك بمثابة خطأ جسيم [3]، وزيادة في صون مبدأ السرية  فإن هذا المحضر لا يمكن الاطلاع على مضمونه إلا بقرار للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.

ومواكبة لبداية تطبيق قانون التنظيم القضائي وجه الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية دورية يوم 08 دجنبر 2022[4]إلى مختلف المحاكم تناولت عدة مستجدات أتى بها القانون المذكور، ومنها توضيح طريقة تطبيق ما نصت عليه المادة 16 (تضمين الرأي المخالف) من الناحية الإدارية، حيث أكدت على مبدأ السرية الذي أقره القانون، لا سيما أن الهيئة كلها تسلم الظرف المغلق لرئيس المحكمة أو نائبه عند غيابه، وبالتالي لن يعرف أي كان من هو القاضي صاحب الرأي المخالف، وذلك مقابل وصل يحمل بيانات الملف القضائي المسجل ظهر الغلاف المغلق ويسلم للهيئة بكاملها، ويتولى رئيس هذه الأخيرة تسليمه للقاضي صاحب الرأي المخالف، كما تم ارفاق  الدورية بمحضر نموذجي، حفاظا على وحدة العمل في هذه النقطة بمختلف المحاكم، لتسجيل الرأي المخالف الذي يجب أن يكون معللا .

وتجدر الإشارة إلى أن المادة 16 من قانون التنظيم القضائي تتضمن بعض الغموض، بحيث لم توضح بعض الجوانب التدبيرية لهذه العملية. حيث لم تقدم التفاصيل حول آجال تقديم المحضر لرئيس المحكمة. مثلا هل عقب انتهاء المداولة مباشرة أم بعد النطق بالحكم؟ وما العمل إذا تأخر ذلك لأيام؟ هل يقبل رئيس المحكمة بتسلم المحضر من الهيئة أم لا ؟ علما أن دورية السيد الرئيس المنتدب التي تمتلك طابعا اداريا، نصت على أنه في حالة عدم التمكن من تسليم الغلاف للرئيس بعد انتهاء الجلسة، يحتفظ به القاضي صاحب الرأي المخالف لغاية أول يوم عمل ، حيث تعمل الهيئة على تسليمه لرئيس المحكمة. كما أن المدة المقررة للاحتفاظ بالمحضر السري التي هي عشر سنوات تفوق بكثير المدد المقررة لتقادم المخالفات التأديبية للقضاة، مما يعني الحرص الكبير من المشرع  على ضرورة الاحتفاظ بهذا الرأي لكل غاية مفيدة أخرى. كما أن القانون لم يوضح مآل المحضر بعد هذه المدة، على خلاف احدى نسخ مشروع قانون التنظيم القضائي التي كانت تنص على ان المحضر يسلم بعد هذه المدة لمؤسسة أرشيف المغرب .

 

  1. كيف سيسهم تسجيل الرأي المخالف في تخليق العمل القضائي؟

إن تنصيص القانون على تضمين الرأي المخالف داخل مداولات الهيئات القضائية، ولو في الحدود المشار اليها أعلاه، يعتبر أحد مداخل تخليق العمل القضائي في المغرب، وذلك لكون عملية التخليق ليس لها منفذ واحد بل منافذ متعددة، ويتداخل فيها الجانب الوقائي والإجراءات الشفافة بالجانب  الزجري. وبشكل عام، سيساهم تسجيل الرأي المخالف وحمايته في تحقيق عدد من النتائج:

  • أولا: تحمل المسؤولية من طرف كل قاض بشكل فردي: حيث سيساعد على تحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات بشكل أدق. فعندما يكون العمل القضائي يتم داخل هيئات قضائية جماعية ومع فرض مبدأ سرية المداولات على أعضاء هذه الهيئات[5]، كان يتم تحميل المسؤولية للهيئة بكاملها في حالة الأخطاء وخاصة المتعمدة منها وكان يصعب عند إثارة المسؤولية التأديبية من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية التمييز بين من كان مخالفا للقانون بشكل فاضح  وبين من أعطى رأيا موافقا لصحيح القانون داخل هذه الهيئات. مع هذا التعديل القانوني الجديد  سيكون من الأسهل التمييز بين مختلف الآراء وبالتالي حماية صاحب الرأي السليم المتحفظ – اتحدث هنا بشكل افتراضي – على خرق القانون وخاصة اذا كان خرقا  فاضحا غير مستساغ .
  • ثانيا: وظيفة وقائية: إن مجرد اثارة القاضي لحقه في تسجيل رأيه وتمسكه بذلك ، واتخاذ الأمر بشكل رسمي بتسجيله في محضر معد لهذا الغرض وتوقيع كافة الأعضاء عليه ، سوف يكون له تأثير نفسي وتذكير أخير لباقي الأعضاء بضرورة التريث وإعادة النظر في قرارهم إن كانت تشوبه شائبة أو مخالفا للقانون بشكل واضح ومتعمد[6].
  • ثالثا: حماية رأي الأقلية: إن عملية تضمين الرأي المخالف فيها نوع من حماية الأقلية من هيمنة رأي الأغلبية[7] التي فرضها التسيير الديمقراطي للمداولات عند تعذر الاجماع على القرار القضائي واللجوء للتصويت، وهو أمر معمول به عدة مجالات ومنها المجال الاقتصادي حيث وفر قانون الشركات، على سبيل المثال، عدة مقتضيات تهم حماية الأقلية داخل  هذه الشركات وضمان التعبير عن رأيها واثارة انتباه الأغلبية أو المسيرين فيها حماية للمصالح المتواجدة داخل الشركات والنظام العام الاقتصادي كذلك.
  • رابعا: تشجيع الإجتهاد القضائي: إن إقرار حق تسجيل الرأي المخالف من شأنه أن ينعش عملية الاجتهاد وحيوية المداولات الجماعية للهيئات القضائية، حيث سوف يكون على العضو الثالث أو الرابع والخامس أن يعمل ويجتهد أكثر فأكثر لتبرير رأيه في كل ملف على حدة من الملفات التي يمكن أن يقع فيها الخلاف، والذي قد ينتج عنه اقناع بقية الهيئة بالرأي المخالف والذي قد يكون اجتهادا قضائيا جيدا، بدلا من الإحباط الناجم عن عدم قدرة صاحب الرأي المخالف على التأثير في المداولة، وبالتالي الركون للصمت مادام أن رأيه لن يكون له أثر لا في واقع المداولة ولا في المستقبل عند اثارة المسؤولية وخاصة إذا تكرر الأمر .
  • أخيرا ، إن هذه الوسيلة القانونية (تسجيل الرأي المخالف) إذا ما تم تطبيقها على الوجه الأمثل وحققت النتيجة الوقائية  للتخليق المرجوة منها ، سوف تخفف من الضرر،بنسبة معينة، الذي يلحق بصورة القضاء عند ارتكاب المخالفات المهنية والسلوكية وتصير معلومة لدى الرأي العام وخاصة تلك المتربطة بالرشاوى أو استغلال النفوذ حيث تضرب صورة العدالة في العمق وتؤثر على مجالات أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر، هنا تكمن أهمية هذه الوسيلة الذاتية والسرية لتخليق العمل القضائي .

الهوامش

[1] – يتعلق الأمر بالقانون رقم 15-38 بشأن التنظيم القضائي – متاح  للاطلاع عليه كاملا بالموقع الرسمي للأمانة العامة للحكومة المغربية على الرابط  الآتي : http://www.sgg.gov.ma/BO/AR/3111/2022/BO_7108_Ar.pdf

[2] وقد منح  هذا القانون لنفسه مهلة ستة اشهر قبل دخوله حيز التطبيق  حتى تستعد المؤسسات المعنية بتطبيقه استعدادا كافيا بحكم المستجدات الجديدة التي جاء بها هذا القانون، علما أنه قطع مسارا زمينا طويلا انطلاقا من سنة 2014 حين طرحته وزارة العدل والحريات للنقاش العام كمسودة أولية مرور بإحالته على المحكمة الدستورية من طرف رئيس الحكومة سنة 2019 وصدور قرار هذه الأخيرة  بعدم دستورية عدة مقتضيات منه وبالتالي اعادته للبرلمان لترتيب الآثار على هذا القرار  ولغاية صدوره بشكله الحالي .

[3] – تجدر الإشارة هنا إلى ان الخطأ الجسيم فيما يخص القضاة يرتب(يترتب عليه) آثار كبيرة من ناحية المساءلة التأديبية التي نصت عليها المادة 97 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ومنها إمكانية توقيفه حالا عن مزاولة مهامه ، وهنا يثار نقاش حول جواز إضافة توصيفات للأخطاء الجسيمة  للقضاة  في قانون عادي عوض قانون  تنظيمي لكون المساءلة التأديبية للقضاة تدخل ضمن تدبير الوضعية الفردية للقضاة من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية والتي نص الدستور على  التفصيل فيها بقانون تنظيمي وليس عادي  ، مع العلم وللإشارة فقط ، فقد سبق للمحكمة الدستورية عند النظر في دستورية القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة أن اكدت ان الأخطاء الجسمية يجب أن تكون على سبيل الحصر لا المثال .

[4] -دورية الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية رقم 22/52 وتاريخ 08-12-2022.

[5] ولا سيما الآن مع عودة الهيآت الجماعية في قضايا المعتقلين في قانون التنظيم القضائي الجديد  بعد أن كانت هذه الهيآت فردية مند تعديلات أواخر سنة 2010.

[6] وطبعا لا نتحدث هنا اطلاقا عن الاجتهاد والتأويل في النصوص القانونية.

[7] – تراجع مقالة محمد عفيف الجعيدي : تعليقا على الرأي المخالف للقاضية غادة عون في قضية رد النائب العام التمييزي: فلنتبن نظام الرأي المخالف في تون- منشورة بالمفكرة القانونية  على الرابط الآتي : shorturl.at/dvAGN

عبد اللطيف الشنتوف

عبد اللطيف الشنتوف

حاصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق، وأستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط وسلا، ورئيس سابق لنادي قضاة المغرب، كاتب مقالات بعدة منابر وطنية عربية ودولية.