لا بد من استحضار الأبعاد الاجتماعية والتشاور الواسع مع مختلف الفاعلين الاجتماعيين أثناء تنزيل مشروع الشركات الجهوية متعددة الخدمات حماية لحقوق المستهلكين.
تحميل المقال
تقديم
في يوليوز 2023، والذي صادف نهاية الدورة التشريعية البرلمانية؛ صدر الظهير الشريف رقم 1.23.53 بتنفيذ القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات، وولد جدلا كبيرا في الأوساط السياسية والاجتماعية، وكانت الدولة في مواجهة العديد من الأسئلة، ولا سيما ذات الصلة بالأبعاد الاجتماعية مثل: تعريفة الكهرباء والماء، وحقوق المستهلكين.
ويعد قانون الشركات الجهوية متعددة الخدمات، وذلك بسبب مضامنه وسرعة صدوره، مثيرا للعديد من الجدل في الأوساط العامة، ولا سيما ما يتعلق بتمظهراته وأبعاده الاكثر اتصالا بالجوانب الاجتماعية. فقد طرح هذا القانون العديد من الأسئلة المقلقة من لدن مجموعة من الأطراف المعنية بالقانون (خبراء، باحثين، ناشطين حقوقيين وسياسيين…) أبرزها: عدم توسيع مساحات الحوار العمومي حول القانون في مرحلة إعداده، تأثير القانون على سيادة الدولة على القطاع وأثر ذلك على الفئات الاجتماعية الهشة، الأعباء الاقتصادية المحتملة للقانون قياسا على تجارب الخوصصة في الماضي.
ستحاول هاته الورقة فتح العديد من مسالك النقاش في قانون الشركات الجهوية من حيث خلفياته وسياقاته ومواقف مختلف الفاعلين منه، وكذا الآثار المحتملة لتطبيق القانون ومقترحات تجاوزها.
1.تحرير قطاع توزيع الكهرباء والماء: ما القصة؟
في السياقات العالمية؛ عرف تدبير قطاع الكهرباء والماء خلال القرن المنصرم تدخلا عموميا تمثل في تدبيره المباشر من لدن الهيئات والأجهزة الحكومية، وذلك بالنظر لمزايا هذا النموذج، والتي تتمثل في تكامل مراحل الإنتاج والنقل والتوزيع، وإتاحة إمكانيات واسعة لتنفيذ استثمارات ضخمة ومنسقة[1]، غير أنه سرعان ما تبدى للعديد من الدول التي خطت هذا المسار أن هناك “ضرورة ملحة” لاتخاذ سياسة عمومية تروم تحرير قطاع الكهرباء والماء بشكل تدريجي لفائدة القطاع الخاص.
فمنذ منتصف القرن الماضي؛ طفت إلى السطح بعض النماذج العالمية التي حاولت تنفيذ المقاربة السابقة، إن الحديث هنا عن دول مثل المملكة المتحدة والنرويج والشيلي، والتي قامت تحت مبرر دعم “المبادرات الخاصة” بتقييد تدخلات الدولة في كل تفاصيل القطاع، ففي قطاع الكهرباء مثلا، تم تنفيذ سياسة التحرير عبر مجموعة من التدابير الرامية إلى فصل “الأنشطة المنفتحة” على المنافسة كالإنتاج، عن “الأنشطة الاحتكارية” الأخرى لا سيما النقل والتوزيع، وهو ما تطلب إحداث هيئات إدارية وتنظيمية مستقلة هدفها الأساسي مراقبة النشاط الاحتكاري في السوق[2]؛ أي مراقبة تدبير عمليات التوزيع والنقل.
لم يستثن المغرب من هاته “النزعة التحريرية”، فبحكم الخيارات الليبرالية التي اتخذتها الدولة منذ ثمانينات القرن الماضي، والمتمثلة أساسا في تحرير العديد من القطاعات منها: المواصلات، البريد…، سيكون قطاع الكهرباء والماء مشمولا بهذا التحرير، فبعد أن كان خاضعا في أغلب عملياته لتدبير الدولة إلى حدود التسعينات، سيعرف انفتاحا على الخواص تزامنا مع السياسة العامة للدولة القائمة على الانفتاح التدريجي لاقتصاده من خلال إعادة هيكلة المنشآت العمومية والاستراتيجية.
ففضلا عن دخول الفاعلين الخواص إلى فرع نشاط إنتاج الكهرباء، سيخضع قطاع التوزيع بدوره خلال سنة 1997 لعملية “خوصصة جزئية”، تجسدت في توقيع عقود التدبير المفوض بين مجلس مدينة الدار البيضاء وشركة “ليديك” لمدة 30 سنة. أعقب ذلك عمليتين إضافيتين للتدبير المفوض همتا تفويض توزيع الكهرباء بمدن الرباط وسلا وتمارة لشركة “ريضال” سنة 1999، وبمدينتي طنجة وتطوان لشركة “أمانديس” سنة 2002[3].
ولأجل تأطير التحولات السابقة، تم إصدار إطار قانوني متنوع، بداية بالقانون رقم 89.39 المرخص لنقل ملكية منشآت عمومية إلى القطاع الخاص، ثم المرسوم رقم 503.942. الذي أنهى احتكار المكتب الوطني للكهرباء والماء وأتاح إدخال منتجين خواص إلى القطاع[4]، إلى أن وصل الأمر إلى إصدار القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات.
في كل المراحل المختلفة لإصلاح قطاع الكهرباء والماء عموما، وقطاع التوزيع خصوصا، واجهت قرارات الدولة “مقاومة شديدة” من لدن الفاعلين الاجتماعيين والمدنيين، بدعوى أن تلك القرارات تمس بالقدرات الشرائية للفئات الهشة من المواطنات والمواطنين وتضرب سيادة الدولة على قطاع استراتيجي. غير أن منطق الدولة في تبرير هاته القرارات كان في كل مرة مختلفا عن منطق الفاعل الاجتماعي والمدني، إذ كثيرا ما أثارت الدولة مشكلة تخفيف عبئ المالية العمومية التي لا تتحمل ضخامة الاستثمارات التي يحتاجها القطاع، مما يفرض -حسب منطق الدولة- الانفتاح على “الخواص”.
-
لماذا صدور قانون الشركات الجهوية؟
لم يحصل الاتفاق بين الفاعلين المختلفين حول توصيف أسباب ودواعي إصدار قانون الشركات الجهوية متعددة الخدمات، ويرجع ذلك على الأرجح إلى مواقع أولئك الفاعلين وخلفيات منظورهم للموضوع، فبالرجوع إلى مواقف المؤسسات الرسمية والنبش في تقييماتها و”تبريراتها” الصريحة أو الضمنية للقانون المذكور، يمكن أن نرى بوضوح الاستحضار المستمر لعامل “الإكراه المالي” من خلال التكلفة الباهظة التي يتحملها الفاعل العمومي وهو يدبر خدمة توزيع الكهرباء والماء.
ففي رأيه المنشور سنة 2024 بعنوان “وضعية المنافسة في قطاع الكهرباء وآفاق تطويره”؛ توقف مجلس المنافسة عند تحديين: الأول استراتيجي مرتبط بالتبعية للخارج بسبب ارتفاع فاتورة استيراد الطاقة وتصاعد أسعار منتجات الطاقة العالمية، والتحدي الثاني ذو طبيعة مالية متعلق بثقل الفاتورة الطاقية وانعكاساتها على الميزان التجاري، على اقتصاد البلاد[5]، ولهذا السبب -حسب رأي مجلس المنافسة- فإن المكتب الوطني للكهرباء والماء يقوم ببيع الكهرباء بهامش ربح سلبي في بعض من الفترات، إذ أنه في عام 2022 حقق نتيجة صافية سلبية بلغت أكثر من 20 مليار درهم[6]، ويعزي المجلس هذا العجر إلى هيمنة المكتب الوطني على خدمة توزيع الكهرباء، حيث بلغت إلى حدود سنة 2022 حوالي 58,6 في المائة من الحجم الإجمالي للكهرباء الموفرة في نفس السنة، وذلك مقابل 41,4 في المائة المحققة من قبل باقي الموزعين (الوكالات الجماعية وشركات التدبير المفوض)[7].
وبعد أن رصد المجلس الوضعية المالية السلبية للمكتب الوطني، دعا إلى فك ارتباط الأخيرة بقطاع التوزيع (بالإضافة إلى الإنتاج) وتمكنيه من إعادة تركيز مجال تدخله على الأنشطة ذات الطابع الاستراتيجي مثل التخطيط والنقل، مع ضرورة القيام بهيكلة ديونه المتراكمة منذ عدة سنوات[8].
الملاحظ في رأي مجلس المنافسة وغيره من أعمال المؤسسات الأخرى التابعة للدولة (يُنظر مثلا رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة 2020[9]) الداعية إلى تشجيع “المبادرات الخاصة” على مستوى تدبير خدمة توزيع الكهرباء والماء عبر القيام بالشراكات مع القطاع الخاص، أنها لم تقم بإجراء نقد ذاتي معمق على تجربة هاته الشراكات في الماضي، وذلك من حيث: الأثر الإيجابي أو السلبي على القطاع، مدى كفاءة مؤسسات القطاع الخاص التي دبرت خدمة التوزيع سابقا، مستوى حكامة هاته المؤسسات بالنظر لالتزاماتها القانونية المتفق عليها مع الدولة، فعالية أدوات الرقابة التي تقوم بها المؤسسات الرسمية لمتابعة تنفيذ الالتزامات من طرف الفاعل الخاص[10]، كما أن الأعمال المذكورة لم تتوقف عند الأسباب الحقيقية لتأزم وضعية المكتب الوطني للكهرباء والماء، ولا سيما التساؤل حول هل فصل خدمة التوزيع عن المكتب الوطني للكهرباء والماء يشكل حلا إصلاحيا ناجعا لمشكلة القطاع؟ وإلى أي مدى ستكون لهذا الفصل احتمالية وجود تداعيات سلبية مستقبلا؟
ينبغي دائما استحضار أن النقاش العمومي حول تحرير القطاعات الاجتماعية في السنوات الأخيرة، غالبا ما أثار مسألة التوجس من تجارب التقويم الهيكلي و”خوصصة” المنشآت العمومية في الماضي، خصوصا تجربتي عام 1997 التي تم بمقتضى الأولى تحرير شركة “سامير” لفائدة المجموعة السويدية/السعودية (Corral Petroleum Holding)، وتم وفق الثانية إبرام عقد التدبير المفوض بين السلطات المغربية وشركة “ليديك” الفرنسية، فأما التجربة الأولى فقد انتهت إلى إفلاس “سامير” وبروز “مآسي” اجتماعية[11]، تمثلت في توقف العديد من أجراء الشركة عن العمل، وأما تجربة لديك، فقد أبرزت العديد من “التجاوزات التدبيرية”[12] التي تم تسجيلها في تقرير المجلس الأعلى للحسابات للعام 2009 مثل تعديل برامج الاستثمارات المتفق عليها دون موجب مشروع أو ضعف مردودية توزيع الماء أو الأداء المحدود لترشيد نفقات البنية التحتية وغيرها من “الاختلالات” التي يمكن الرجوع إليها في التقرير المذكور[13].
-
الفاعل الرسمي: قانون الشركات الجهوية إصلاح يتجاوز أخطاء الماضي
رغم إقرار بعض التقارير الرسمية بمزايا نظام توزيع الكهرباء والماء السابق، والمتمثلة أساسا في إنجاز البنيات التحتية الهامة، إلا أن هناك إجماع داخل الفعاليات الرسمية حول فشل هذا النظام، بحيث تتجسد إشكالياته المرصودة وفقا للتقارير المذكورة في: تعدد الأطراف المتدخلة. (التدبير المباشر من لدن بعض الجماعات، التدبير من طرف المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب في الإطار التعاقدي، التدبير الذي تشرف عليه الوكالات الجماعية للتوزيع، إلى جانب التدبير الذي تسهر عليه شركات التدبير) -تداخل مجالات تدخل مختلف الموزعين، والذي قد يترتب عنه إنجاز استثمارات غير مبررة اقتصاديا، وفعالية محدودة، وتدبير خدمات التوزيع من قبل أطراف مختلفة في نفس النطاق الجغرافي- غياب الحكامة الجيدة بسبب عدم التنسيق وتعدد المتدخلين[14].
إن هاته المبررات وغيرها، ستكون موجها “للتفكير الرسمي” في هندسة نظام جديد لخدمات توزيع الكهرباء والماء، حيث سيتم تدشين مسار إصلاح النظام المذكور انطلاقا من تاريخ 29 يوليوز 2021 من خلال التوقيع على مذكرة تفاهم بين وزارة الداخلية والاقتصاد والمالية ووزارة الطاقة والمعادن والبيئة من جهة، والمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب من جهة ثانية[15].
وفي العام 2023، سيُطرح قانون الشركات الجهوية إلى المشهد العمومي، وسيولد جدلا كبيرا في الأوساط السياسية والاجتماعية، وستكون الدولة في مواجهة العديد من الأسئلة، وقد تم تحديد أهداف النص القانوني الجديد في: دعم مسلسل الجهوية المتقدمة التي انخرط فيها المغرب منذ دستور 2011[16] وتحسين تكلفة الاستثمار عبر ضمان استمرارية الخدمة في الجماعات الترابية وتجميع البنيات التحتية وضبط تكلفة الاستغلال وتقليصها من خلال تجميع الوسائل عبر تجميع خدمات الكهرباء والماء الصالح للشرب والتطهير السائل بين يدي فاعل واحد وإرساء تدبير عصري وناجع للخدمات المعنية وتعميم الخدمات على مجموع تراب الجهة المعنية وضمان الإنصاف بين المرتفقين وتوريد خدمات جيدة[17].
أما على المستوى البرلماني؛ فقد قدم وزير الداخلية أمام مجلسي البرلمان مشروع القانون رغبة منه في التعاطي مع النقاش المجتمعي المطروح بخصوص القانون، إذ كثيرا ما توقف عند قضايا مثل: طبيعة الشركات الجهوية (عمومية، خاصة…)[18]، توحيد المتدخلين في قطاع التوزيع[19]، اعتماد مبدأ التدرج في إحداث الشركات الجهوية في مختلف الجهات[20]، إمكانيات فتح رأسمال الشركة أمام الخواص وفوائده العملية وأشكال هذا الفتح من الناحية القانونية (اكتتاب، البورصة…)[21]، حرية الجماعات الترابية في إحداث الشركات الجهوية[22]، خضوع الشركات الجهوية لمبدأ التتبع والرقابة بناء على عقد التدبير المبرم بينها وبين الدولة[23].
وفي يوليوز 2023، والذي صادف نهاية الدورة التشريعية البرلمانية، سيصدر الظهير الشريف رقم 1.23.53 بتنفيذ القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات، ويمكن إجمال أهم المضامين الكبرى المميزة في أربع: 1.الحسم في طبيعة الشركة الجهوية باعتبارها شركة مساهمة تخضع لأحكام الظهير المذكور وللقانون رقم 17.95 المتعلق بشركات المساهمة ولنظامها الأساسي[24] 2. الحسم في إشكالية مساهمة الخواص في رأسمال الشركة، حيث فتح النص القانوني “الإمكانية” أمام الخواص للمساهمة في رأسمال الشركة الجهوية حتى 90 في المائة، وذلك في مقابل مساهمة الدولة بنسبة لا يمكن أن تتجاوز في جميع الأحوال 10 في المائة[25]، 3. خضوع الشركات الجهوية إلى عقد التدبير الذي يحدد قواعد تأطير العلاقة بين الشركات الجهوية والجماعات الترابية[26]، 4. تنصيص القانون على مقتضى وضع مجموع الأصول والموارد المخصصة لتدبير هذا المرفق العمومي (والتي كانت تابعة فيما قبل للمكتب الوطني للكهرباء والماء والوكالات المستقلة) على الصعيد الجهوي رهن إشارة هذه الشركات[27].
ولقد باشرت الدولة أجرأة القانون المتعلق بالشركات الجهوية من خلال إصدار جملة من النصوص والقرارات التنظيمية، وذلك من قبيل:
– مرسوم رقم 2.23.1033 صادر في 19 فبراير 2024 بتطبيق المادة 2 من القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات والذي حدد مراحل إحداث الشركات الجهوية على صعيد الجهات[28]؛
– مرسوم رقم 2.23.1035 صادر في 19 فبراير 2024 بتطبيق المادة 14 من القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات، والذي حدد مسطرة جرد العقارات والمنقولات وشروط وكيفيات تعويض الشركة الجهوية للمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب؛
_مرسوم رقم 2.23.1034 صادر في 19 فبراير 2024 بالإذن بإحداث اثنتي عشرة شركة جهوية متعددة الخدمات؛
_ قرار لوزير الداخلية رقم 990.24 صادر في 16 أبريل 2024 بتحديد نموذج عقد التدبير الذي يبرم بين صاحب المرفق والشركة الجهوية متعددة الخدمات وكذا دفاتر التحملات الملحقة به[29].
في النقطة الموالية؛ سيتم رصد بعض من مواقف وسلوكات الفاعلين السياسيين والاجتماعيين بخصوص القانون وفق منهجية موضوعية ونقدية.
-
الفاعلون الاجتماعيون والسياسيون: التوجس والقلق من المسار الجديد
تركزت مواقف الفاعلين غير الرسمين (أحزاب، نقابات، جمعيات حقوقية) على نقد النص القانوني الجديد، لا سيما في جوانبه الأكثر اتصالا بالأبعاد الاجتماعية، دون إغفال استحضار بعض المسائل القانونية والتقنية في هذا النقاش، حيث يمكن رصد النقاط التي تم التركيز عليها في النقد المذكور فيما يلي:
-نقد المسار الجديد بوصفه مسلسلا في تنفيذ الإصلاحات المفروضة من المؤسسات المالية الدولية على المغرب[30]؛
-تغييب الطابع العمومي عن الشركة بالنظر لكونها شركة مساهمة تنتمي إلى أشخاص القانون الخاص[31]؛
-الوضعية الإدارية لمستخدمي القطاع (مستخدمو المكتب الوطني والوكالات المستقلة وشركات التدبير المفوض)[32]؛
-التصفية الفعلية للمكتب الوطني للكهرباء والماء باعتباره قطاع استراتيجي وسيادي، في مقابل التمكين للشركات الجهوية قانونيا ولوجستيا وماليا[33]؛
– اعتبار مسار الشركات الجهوية بمثابة “تبضيع لخدمات توزيع الكهرباء والماء” وإخضاعها لمنطق العرض والطلب، وهو ما من شأنه الانتقال من مفهوم الخدمة العمومية إلى الخدمة الربحية، مما سينعكس لا محالة على فاتورة الكهرباء والماء مستقبلا[34]؛
-التنزيل المتسرع للقانون وعدم نهج المقاربة التشاركية الموسعة في ارتباط بالمراسيم الجديدة[35]؛
-مخالفة النص الجديد للقوانين التنظيمية للجماعات الترابية، وخاصة مبدأ التدبير الحر للجماعات[36].
لقد فتح قانون الشركات الجهوية الباب ليس فقط أمام الجدل المجتمعي، بل كذلك أمام “فورة احتجاجية”، تجسدت بداية في أشكال مختلفة من التظاهر والإضرابات عن العمل في قطاع الماء والكهرباء بقيادة مجموعة من الفعاليات النقابية التي عبرت عن رفض المضامين الجديدة للقانون[37]، لا سيما في ظل عزم الدولة الإسراع بإخراج القانون إلى الوجود، غير أن السلوك الاحتجاجي المذكور عرف تراجعا (إن لم يكن خفوتا) كبيرا بمجرد صدور القانون. ولعل من المفارقات التي رافقت احتجاجات بعض الفعاليات النقابية على القانون أن بعض الفاعلين من نفس الهيئة النقابية انقسموا بين التأييد الفعلي للقانون من خلال التصويت عليه –بصفتهم البرلمانية- داخل مجلس المستشارين، وبين رفضه من خلال الاحتجاج عليه على بعد أمتار من قبة البرلمان[38].
أما مجتمعيا فشهدت بعض مناطق المغرب مدا احتجاجيا متناميا رفضا لتنفيذ قانون الشركات الجهوية، وذلك كما هو حال منطقة فكيك التي اندلعت فيها العديد من الأشكال الاحتجاجية (وقفات، مسيرات…) المناهضة لقرار تطبيق قانون الشركات الجهوية[39]، وقد بدا وكأن الدولة تواجه “تكلفة احتجاجية بعدية” باهضة الثمن، نتيجة عدم أخذ الوقت الكافي في النقاش والتداول العموميين حول القانون أسوة بالقوانين الأخرى التي خضعت للمقاربة التشاركية، وذلك من قبيل مدونة الأسرة والقانون الجنائي.
-
خاتمة: ينبغي تجنب المخاطر الاجتماعية المحتملة
من أجل إضفاء الطابع الاجتماعي على قانون الشركات الجهوية، توصي هاته الورقة بالإبقاء على مفهوم التعريفة الاجتماعية لحماية القدرة الشرائية للساكنة الهشة وتكريس مبدأ المساواة الاجتماعية بين مستخدمي الشركات الجهوية في الحقوق والالتزامات وعدم التسرع في فتح رأسمال الشركات الجهوية أمام الفاعلين الخواص وتأهيل الجماعات الترابية لتكون فاعلا حقيقيا في المشروع وضرورة التشاور مستقبلا مع الفاعلين الاجتماعيين في كل مراحل تنزيل القانون. كما تقترح الورقة ضرورة استحضار الأبعاد الاجتماعية وأهمية التشاور الواسع مع مختلف الفاعلين الاجتماعيين أثناء تنزيل المشروع.
ضرورة استحضار الأبعاد الاجتماعية: إذ يشكل موضوع حماية الأبعاد الاجتماعية محورا للجدل المجتمعي القائم حول قانون الشركات الجهوية منذ أكثر من سنة، وذلك بسبب التخوف من التخلي عن مفهوم “التعريفة الاجتماعية” الذي كان سائدا من ذي قبل، وهو التوجس الذي تحكم حتى في بعض الفعاليات الرسمية التي دعت في العديد من المناسبات إلى ضرورة “إرساء آلية لتعديل التعريفة بصفة دورية وبطريقة تعكس التكلفة الحقيقية للكهرباء وتحمي القدرة الشرائية للساكنة الهشة”[40].
وفي هذا السياق الاجتماعي لا بد من حماية منظومة مستخدمي قطاع الكهرباء والماء بمختلف أطرهم وتنوع إنتماءاتهم الإدارية، فإذا كان قانون الشركات الجهوية والقرار التطبيقي لوزير الداخلية المشار إليه سابقا قد أشاروا جميعا إلى حماية “الامتيازات” السابقة التي كان يتمتع المستخدمون بها، إلا أن تنوع الأنظمة الإدارية والاجتماعية التي يخضعون لها بحسب قطاعاتهم المنقولين منها (المستخدمين المنقولين من المكتب الوطني للكهرباء والماء، المستخدمين المنقولين من الوكالات المستقلة، المستخدمين المنقولين من شركات التدبير المفوض، المستخدمين الذين يتم تشغيلهم طبقا لأحكام نظام المستخدمين الخاص بالشركة[41]) وتفاوتها من حيث الحوافز المادية وخدمات الأعمال الاجتماعية، قد يؤدي إلى خلق نوع من “الاحتقان” داخل القطاع، وبالتالي يعيد إلى الأذهان إشكال الاحتقان الذي ساد قطاع التربية الوطنية بسبب التمييز في الوضعية الإدارية بين الموظفين التابعين للإدارة المركزية والموظفين التابعين للأكاديميات الجهوية.
التشاور الواسع مع مختلف الفاعلين الاجتماعيين: إن “استفزاز الاحتجاج القبلي خير من تكلفة الاحتجاج البعدي”، وهي مقولة معمول بها في السياق التنموي، وتصلح هنا أيضا اعتبارا لكون أحد أهم رهانات قطاع الكهرباء والماء، تتمثل في تحقيق التنمية، فاللجوء القبلي إلى المقاربة التشاركية يقي الدولة من التكاليف الباهظة لفشل السياسات العمومية، ففشل سياسة معينة بدون المرور من القنوات التشاركية (الساكنة المحلية، الشعب، الهيئات المنظمة: نقابات، جمعيات، أحزاب…) يعني تحمل ضريبة إهدار الأموال العامة ومواجهة معقدة للممارسات الاحتجاجية التي قد يستعصي أحيانا توقع نتائجها وآثارها.
ومن هنا ضرورة تملك الفاعل العمومي “للروح التشاركية” من خلال استدعاء مبدأ التشاور مع مختلف الفاعلين الاجتماعين في كل مراحل الفعل العمومي المتعلق بتدبير القطاع، فالأمر في النهاية يتعلق بثروتين عموميتين هامتين هما الكهرباء والماء، وهما ملك للجميع، ومن ثم فإن تدبيرهما؛ ينبغي أن يكون أيضا ملكا للجميع.
الهوامش
[1]. Le rapport annuel de autorité nationale de régulation de l“électricité 2022, royaume du maroc, p: 12
[2]. Le rapport annuel de autorité nationale de régulation de l“électricité 2021, royaume du maroc, p: 13
[3]. ينظر: رأي مجلس المنافسة عدد: (ر/1/24) حول وضعية المنافسة في قطاع الكهرباء وآفاق تطويره، 28 مارس 2024، ص: 22-23
[4] . مرسوم قانون رقم 2.94.503 صادر في 16 من ربيع الآخر 1415 (23 سبتمبر 1994) يغير بموجبه الظهير الشريف رقم 1.63.226 الصادر في 14 من ربيع الأول 1383 (5 أغسطس 1963) بإحداث المكتب الوطني للكهرباء.
تنص المادة الأولى من هذا المرسوم على أنه “يؤهل لأن يبرم، بعد طلب المنافسة، اتفاقيات مع بعض الأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون الخاص لأجل قيام هؤلاء بإنتاج الطاقة الكهربائية من قوة تزيد على 10 ميكا”.
[5]. المرجع السابق، ص: 18
[6]. ينظر:
المرجع السابق، ص: 26
جواد مستقبل، قطاع الطاقة بالمغرب: التبعية الدائمة، ورقة منشورة على الرابط الإلكتروني التالي:
https://www.tni.org/en/article/the-moroccan-energy-sector?translation=ar
تمت المشاهدة بتاريخ: 7 دجنبر 2024
[7]. رأي مجلس المنافسة، مرجع سابق، ص: 50
[8]. المرجع السابق، ص: 105
[9]. رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول تسريع الانتقال الطاقي لوضع المغرب على مسار النمو الأخضر، إحالة ذاتية رقم 45/2020.
[10]. تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لشمال افريقيا بعنوان شراكات بين القطاعين العام والخاص من أجل تحقيق تعافي شامل وأخضر بعد كوفيد _ 19 في شمال افريقيا، نونبر 2021، ص:17 _ 18
[11] . نجيب أقصبي، الاقتصاد المغربي تحت سقف من زجاج من البدايات إلى أزمة كوفيد – 19، ترجمة: نور الدين سعودي، المجلة المغربية للعلوم السياسية والاجتماعية، عدد خاص 36، 5 ابريل 2024، ص: 74-75
[12]. جواد مستقبل، قطاع الطاقة بالمغرب: التبعية الدائمة، مرجع سابق
[13]. للمزيد حول هذا الموضوع يرجى الرجوع إلى تقرير أنشطة المجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2009 (الجزء الثاني) من خلال الرابط الإلكتروني التالي:
https://www.courdescomptes.ma/ar/publication/%d8%aa%d9%82%d8%b1%d9%8a%d8%b1-
تمت المشاهدة بتاريخ: 7 دجنبر 2024
[14] . رأي مجلس المنافسة عدد: (ر/1/24) حول وضعية المنافسة في قطاع الكهرباء وآفاق تطويره، ص: 70 _ 71
[15] . نفس المرجع السابق، ص: 71
[16] . نفس المرجع السابق، ص: 35
[17]. للمزيد حول المذكرة التقديمية لوزارة الداخلية حول قانون الشركات الجهوية متعددة الخدمات، يرجى الرجوع إلى رأي مجلس المنافسة، مرجع سابق، ص: 70 _ 71
[18]. تقرير لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة بمجلس النواب حول مشروع قانون رقم 83.21 يتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات، دورة أبريل 2023، السنة التشريعية: 2022_2023، الولاية التشريعية الحادية عشرة: 2021_2026، ص: 2
[19]. نفس المرجع، نفس الصفحة
[20]. نفس المرجع، ص: 3
[21]. المرجع السابق.
[22]. المرجع السابق.
[23]. المرجع السابق.
[24]. المادة 2 من الظهير الشريف رقم 1.23.53 الصادر في 12 يوليوز 2023 بتنفيذ القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات متعددة الخدمات
[25]. المادة 3 من الظهير الشريف رقم 1.23.53 الصادر في 12 يوليوز 2023 بتنفيذ القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات متعددة الخدمات.
[26]. المادة 6 من الظهير الشريف رقم 1.23.53 الصادر في 12 يوليوز 2023 بتنفيذ القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات متعددة الخدمات.
[27]. المادة 11 من الظهير الشريف رقم 1.23.53 الصادر في 12 يوليوز 2023 بتنفيذ القانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات متعددة الخدمات.
[28]. حسب المادة الأولى من هذا المرسوم؛ سيتم إحداث الشركات الجهوية بجهات المملكة على ثلاث مراحل:
_المرحلة الاولى (من تاريخ نشر المرسوم في الجريدة الرسمية إلى الشهر الرابع الموالي لتاريخ هذا النشر): جهة الشرق، جهة الدار البيضاء_سطات، جهة مراكش _أسفي، جهة سوس ماسة.
_المرحلة الثانية (من نهاية المرحلة الأولى إلى نهاية الشهر الثاني عشر الموالي لنشر المرسوم بالجريدة الرسمية): جهة طنجة_تطوان_الحسيمة، جهة فاس_مكناس، جهة الرباط_سلا_القنيطرة، جهة بني ملال_خنيفرة.
_المرحلة الثالثة (من نهاية المرحلة الثانية إلى نهاية الشهر الثامن عشر الموالي لتاريخ نشر المرسوم بالجريدة الرسمية): جهة درعة تافيلالت، جهة كلميم _وادنون، جهة العيون_الساقية الحمراء، جهة الداخلة_وادي الذهب
[29]. يحدد النموذج شكل ومضمون عقد التدبير، حيث يتضمن مثلا موضوع العقد ونطاقه الترابي وأهدافه الأساسية ومدته ونظام أموال المرفق وحقوق وواجبات صاحب المرفق والشركة ونظام المستخدمين ومراقبة التدبير والعقوبات والتعويضات وكيفيات مراجعة العقد وتعديله وانتهائه.
[30]. ينظر في هذا الإطار: لا لقانون الشركات الجهوية متعددة الخدمات في سوس ماسة، مقال منشور على الرابط الإلكتروني التالي:
https://attacmaroc.org/%D8%B1%D9%81%D8%B6%D8%A7-%D9%84%
تمت المشاهدة بتاريخ: 27 دجنبر 2024
[31]. ينظر: حيكر: لهذه الأسباب صوتت المجموعة النيابية بالرفض على مشروع قانون الشركات الجهوية، منشور على الرابط الإلكتروني التالي:
https://www.pjd.ma/185412-%D8%AD%D9%8A%D9%83%D8%B1-%D9%84%D9%87%D8%B0%
تمت المشاهدة بتاريخ: 27 دجنبر 2024
[32]. ينظر: الكونفدرالية تصوت في البرلمان ضد قانون الشركات الجهوية لتوزيع الماء والكهرباء زرع الانقسام بين النقابات، مقال منشور على الرابط الإلكتروني التالي:
https://alyaoum24.com/1798368.html
تمت المشاهدة بتاريخ: 27 دجنبر 2024
[33] . ينظر في هذا الإطار:
لا لقانون الشركات الجهوية متعددة الخدمات في سوس ماسة، مرجع سابق.
الكونفدرالية تصوت في البرلمان ضد قانون الشركات الجهوية لتوزيع الماء والكهرباء زرع الانقسام بين النقابات، مرجع سابق.
[34] . الكونفدرالية تصوت في البرلمان ضد قانون الشركات الجهوية لتوزيع الماء والكهرباء زرع الانقسام بين النقابات، مرجع سابق.
[35] . ينظر: المصباح ينتقد “التنزيل المتسرع” لقانون الشركات الجهوية متعددة الخدمات.. ويستشهد ب”احتجاجات فجيج” لتأكيد صحة موقفه، مقال منشور على الرابط الإلكتروني التالي:
https://banassa.info/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A8%D8%A7%D8
تمت المشاهدة بتاريخ: 27 دجنبر 2024
[36]. ينظر بهذا الخصوص:
حيكر: لهذه الأسباب صوتت المجموعة النيابية بالرفض على مشروع قانون الشركات الجهوية، مرجع سابق.
الكونفدرالية تصوت في البرلمان ضد قانون الشركات الجهوية لتوزيع الماء والكهرباء زرع الانقسام بين النقابات، مرجع سابق.
[37]. ينظر أيضا:
نقابات تلجأ إلى “إعلان العصيان” ضد مشروع الشركات الجهوية للماء والكهرباء، مقال منشور على الرابط الإلكتروني التالي:
https://www.hespress.com/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-
تمت المشاهدة بتاريخ: 27 دجنبر 2024
[38]. ينظر بهذا الصدد:
تقرير لجنة الداخلية والجماعات الترابية والبنيات الأساسية بمجلس المستشارين حول مشروع قانون رقم 83.21 يتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات، الولاية التشريعية: 2021 _ 2027، السنة التشريعية: 2022_2023، الفترة الفاصلة بين دورة أكتوبر 2022 ودورة 2023
تصويت على الشركات الجهوية يثير اللبس، مقال منشور على الرابط الإلكتروني التالي:
https://www.hespress.com/%D8%AA%D8%B5%D9%88%D9%8A%D8%AA
تمت المشاهدة بتاريخ: 27 دجنبر 2024
[39]. عبد المجيد أمياي، ساكنة فجيج تواصل احتجاجاتها رفضا لخوصصة الماء وتستنكر “المساومة” بقفف رمضان، مقال منشور على الرابط الإلكتروني التالي:
https://www.thevoice.ma/%d8%b3%d8%a7%d9%83%d9%86%d8%a9-%d9%81%d8%ac%d9%8a%d8%
تمت المشاهدة بتاريخ: 27 دجنبر 2024
ينظر كذلك: محمد دنيا، أسعار الكهرباء بسوس تشتعل وهيئات تتأهب للخروج للاحتجاج، مقال منشور على الرابط الإلكتروني التالي:
https://www.achkayen.com/596635/.html
تمت المشاهدة بتاريخ: 16 يناير 2025
[40]. ينظر رأي مجلس المنافسة عدد: (ر/1/24) حول وضعية المنافسة في قطاع الكهرباء وآفاق تطويره ، مرجع سابق، ص: 113-114-115
[41]. يرجى الرجوع إلى المادة 40 من قرار وزير الداخلية رقم 990.24 صادر في 16 أبريل 2024 بتحديد نموذج عقد التدبير الذي يبرم بين صاحب المرفق والشركة الجهوية متعددة الخدمات وكذا دفاتر التحملات الملحقة به.

سفيان الكمري
حاصل على الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة الحسن الأول سطات.