الأبحاثمسار الاصلاح القضائي بالمغرب بعد دستور 2011

عرف قطاع العدالة في المغرب مسارا إصلاحيا مهما منذ سنة 2011، ولكن بالرغم من ذلك، لا زال يتميز بالبطئ في التنزيل.

[vc_row][vc_column][vc_column_text]

عرف قطاع العدالة في المغرب مسارا إصلاحيا مهما منذ سنة 2011، ولكن بالرغم من ذلك، لا زالت تتميز بالبطئ في التنزيل.

 

تحميل المقال
الملخص التنفيذي

منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، عرف مسار إصلاح قطاع العدالة في المغرب محطات بارزة، إلا أن الحراك الاجتماعي الذي شهده المغرب في سنة 2011، أرسى مسار هذا الإصلاح من الناحية الدستورية والقانونية. ومنذ صدور ميثاق إصلاح منظومة العدالة في 2013، باشر الفاعل الرسمي سلسلة من الإصلاحات هدفت إلى تعزيز استقلالية السلطة القضائية، وعلى الرغم من أهميتها إلا أنها تميزت بالبطء كما أن الحوار مع الفاعلين في قطاع العدالة لم يشهد حركية ملموسة، مما انعكس على هذا المسار من حيث الفاعلية والإنجاز.

 

تقديم

في شهر أبريل 2017، عين الملك محمد السادس أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، كأحد المحطات الرئيسية في مسار إصلاح القضاء في المغرب، التي عرفت زخما لافتا بعد التعديل الدستوري سنة 2011 والذي كرس استقلالية السلطة القضائية في المغرب. وقد كان هذا التعيين جزء من مشروع واسع النطاق لإصلاح قطاع العدالة، حيث تضمن بالإضافة إلى تأسيس المجلس الأعلى للسطة القضائية، أيضا استقلالية النيابة العامة عن وزارة العدل، والتحديث الإداري والتقني لقطاع العدل بهدف تسريع الاحكام وتكريس نزاهة واستقلالية القضاء.

وبالرغم مما يظهر من الوهلة الأولى على أن هذه الإصلاحات كانت رد فعل على احتجاجات حركة 20 فبراير والتي من بين نتائجها الإصلاحات الدستورية في سنة 2011، إلا أن النظر المعمق لمسار اصلاح القضاء في المغرب يكشف أن منحى هذا الإصلاح عرف دينامية لافتة منذ تسعيينيات القرن الماضي.

تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على أهم المحطات التي عرفها منحى اصلاح العدالة في المغرب، وأيضا توصيف أبرز الإصلاحات التي عرفها هذا القطاع منذ التعديلات الدستورية سنة 2011، ثم أخيرا رصد لابرز التحديات التي تعترض هذه الإصلاحات.

وتجادل هذه الورقة بكون أن مشروع اصلاح العدالة في المغرب تعترضه عدة تحديات ، منها: تحدي تنزيل المبادئ الدستورية  في باب السلطة القضائية بنفس السقف الحقوقي الذي جاء به دستور سنة 2011، فالملاحظ هو التقليص من مجموعة من الحقوق والمفاهيم بواسطة القوانين، وهو ما سيتم الوقوف عليه في هذه الورقة، فضلا عن معضلة البطئ في تنزيل المشاريع  في هذا الباب أيضا، لا سيما طريقة اشتغال المؤسسات القضائية المركزية الجديدة، أي المجلس الاعلى للسلطة القضائية والنيابة العامة، ثم المحاكم، إذ ينتظر المغاربة بعد سبع سنوات من النقاش العام، نتائج ملموسة لهذه النقاشات على أرض الواقع .

 

لمحة تاريخية

في بداية التسعينات، عملت الدولة على إحداث محاكم إدراية متخصصة بهدف التأسيس لدولة الحق والقانون من مدخل الإصلاح القضائي. وقد كان الغرض آنذاك عو البت في القضايا التي تكون الدولة طرفا فيها. كما تم أيضا إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990،  ليتم الانتقال إلى تأهيل قضاء الأعمال بإحداث محاكم تجارية متخصصة لتشجيع الاستثمار سنة 1997.

ومنذ اعتلاء الملك محمد السادس للعرش في سنة 1999، حرص العاهل المغربي في عدد من خطبه، على إثارة موضوع الإصلاح العميق للقضاء، كضرورة وطنية لإرساء قوام دولة الحق والقانون. وقد شهدت هذه الخطب تطورا ملحوظا في تعاطيها مع مسألة الإصلاح، حيث ابتدأت على شكل توصيات وملاحظات، لتنتقل بعدها إلى مرحلة جديدة تمثلت في صياغة آليات إجرائية، إلا أنه و بعد سنة 2011، خصوصا مع الحراك السياسي والاجتماعي في المغرب، سيكون لخطاب 9 مارس 2011، تم إقرار الدستور الجديد من نفس السنة، لحظته الفاصلة في بداية مسار جديد من إصلاح هذا القطاع بالمغرب.

 

الدستور الجديد ورهان استقلالية السلطة القضائية

تضمن دستور سنة 2011، عددا من المبادئ الدالة والتي دفعت بمسار إصلاح القضاء نحو أجرأة فعلية، من خلال تنصيصه[1] بشكل واضح على كون القضاء يشكل سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، عوض تسمية جهاز القضاء التي كانت في الدستور السابق، وأيضا توسيع كل من تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية  ليشمل وجود شخصيات غير قضائية به، وأيضا صلاحيات المجلس الاعلى للسلطة القضائية ليشمل اختصاصات غير تقليدية، مثل حماية استقلال القاضي وابداء رأيه في القوانين التي تهم العدالة واصدار تقارير  سنوية حول وضعية العدالة ومناقشة تقارير السياسة الجنائية التي ينفذها رئيس النيابة العامة.

كما تضمن أيضا حرية التعبير وحق التأسيس والانتماء الجمعوي للقضاة، وأيضا بعض المبادئ التي تهم حقوق المتقاضين والمحاكمة العادلة والدفاع، مثل حق التقاضي وحق الحصول على أحكام داخل آجال معقول وقرينة البراءة لفائدة المتهم والتعويض عن الخطأ القضائي ومنع انشاء المحاكم الاستثنائية والتزام السلطات بتنفيذ الاحكام القضائية، وقد كان الرهان منصبا، مباشرة بعد سنة 2011 ، على تنزيل هذه المبادئ الدستورية العامة وأجرأتها على ارض الواقع  في شكل قوانين تنظيمية، حيث اختلفت رؤى الفاعلين في مجال العدالة. بمناسبة اطلاق “الحوار الوطني  لإصلاح منظومة العدالة”في سنة 2012[2].

وتعد هذه المحطة، من أبرز محطات إصلاح قطاع العدالة التي حضيت بمواكبة حكومية أشرف عليها الوزير السابق للعدل والحريات المصطفى الرميد، حيث قام العاهل المغربي بتنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني، والتي تضمنت 40 شخصا مثلت جميع المؤسسات الدستورية والقطاعات الحكومية والقضائية فضلا عن تمثيلية وازنة للمجتمع المدني ومختلف الفعاليات المؤهلة المعنية بإصلاح منظومة العدالة. حيث حرص الوزير وبعد تعيينه، على إطلاق حوار وطني حول إصلاح القضاء بهدف الوصول إلى ميثاق وطني يشترك الجميع في إقراره، وعمل أيضا على الحصول على مباركة ملكية لهذه المبادرة، وهكذا استقبل الملك في 6 ماي 2012، أربعين عضوا مشكلين للهيئة[3].

وقد عملت الهيئة في إعداد الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة، من خلال عقدها لعدد من المؤتمرات والندوات والاجتماعات، فضلا عن الزيارات الميدانية واللقاءات مع ممثلي المجتمع المدني وغيره، بغية الوصول إلى صيغة مشتركة توافقية. حيث تم عقد 11 ندوة جهوية واكبتها زيارات ميدانية لمعاينة المحاكم، وعقد جلسات عمل واستماع مع قضاتها وموظفيها ومحاميها، كما عقدت الهيئة العليا 41 اجتماعا داخليا، وتلقت استشارية كتابية لـ 111 هيئة حزبية ونقابية ومهنية، مع عقد 104 ندوة مواكبة على صعيد المحاكم، ومشاركة 200 جمعية من منظمات المجتمع المدني، إلا أن خروج الميثاق في سنة 2013، وما واكبه من حركية على مستوى الفاعلين في مجال العدالة، أوجد معه خلافا بين مختلف الأطراف حول ثلاث نقاط اساسية، ارتبطت بمدى استقلال هذه السلطة ودور وزارة العدل في المرحلة الموالية ثم ضمانات الاستقلال الفردي للقضاة، وأيضا موضوع استقلال النيابة العامة.

وقد أثار الفصل 107 من الدستور الخاص باستقلال السلطة القضائية جدلا بين الفاعلين حول مفهوم الاستقلالية في حد ذاته. وبرز تفسيران، الأول يركز على استقلال القاضي كشخص يصدر الاحكام ومن ثمة أن على السلطات الأخرى توفير الأدوات الضرورية لخدمة هذا الاستقلال. التفسير الثاني يذهب الى الاستقلالية المؤسساتية، وثم ثمة استقلال السلطة القضائية مؤسساتيا من حيث إدارة المرفق القضائي وتوفره على مالية مستقلة، وقد كان يقصد أصحاب هذا التفسير استقلال كل المرافق القضائية من مؤسسات مركزية إلى المحاكم بمختلف مناطق المغرب.

وبينما طالب القضاة عبر جمعياتهم المهنية[4] وكذا مسؤولين كبار في القضاء، من قبيل الرئيس الاول لمحكمة النقض، بضرورة منح الاستقلال المالي للسلطة القضائية[5] حتى تتحمل مسؤولياتها في المنتوج القضائي برمته ادارة وحكما، وحتى لا يشكل هذا الجانب مدخلا من مداخل التأثير على قرارات القضاء، تشبتت وزارة العدل بدور السلطة التنفيذية في عملية الإدارة استنادا على المادة الدستورية، كما أن هذا الأخير لم يمنح الاستقلال المالي والإداري إلا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، دون المحاكم والمرافق القضائية الأخرى التي يجب أن تبقى تابعة لوزارة العدل، باعتباره لن يمس باستقلالية القرار القضائي في شيء. وفي الأخير انتصر القانونان التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة[6]، لرؤية وزارة العدل بعدم منح الاستقلال المالي والإداري للمحاكم.

وفي ما يرتبط بالقضاة، فقد منح الدستور المغربي الجديد، بشكل عام، ضمانات للقضاة تهم تدبير وضعيتهم المهنية من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والمرتبطة بالتعيين والترقية والانتقال والتأديب إلى مرحلة التقاعد، كما منحت للقضاة عدد من الحقوق ذات العلاقة بحرية التعبير وتأسيس الجمعيات والانتماء اليها، وبما ان  بعضا من هذه الحقوق  كان متوقفا على صدور القانونين التنظيميين لتفصيلهما وأحيانا توضيحهما، فقد كانت السمة الغالبة التي طغت على مناقشة هذا الموضوع هي محاولة المشرع (السلطة التنفيذية باعتبارها مقدمة مشاريع القوانين والبرلمان) التقليص من إطلاقية تلك الحقوق كما وردت بالدستور، وهكذا تم تفريع واجب تحفظ القضاة، ليكون مقلصا من حرية التعبير، وتم منع القضاة من تسيير الجمعيات المدنية والاكتفاء فقط بالجمعيات المهنية الخاصة بهم، منعا لأي اختلاط مع فعاليات المجتمع المدني بشكل منظم.

كما تم ضرب المبدأ الدستوري الذي ينص على منع نقل القاضي دون طلب منه من المحكمة التي هو معين بها إلى محكمة أخرى، إلا في الحالات التي يحددها القانون بشكل مسبق ، وهذه ضمانة للقاضي حتى لا يستعمل النقل الإداري للانتقام من القاضي بسبب مواقفه أو أحكامه، لكن القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الاساسي للقضاة قد سمح بنقل القاضي لمدة معينة إلى محكمة أخرى من طرف الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئيس النيابة العامة فيما يخص قضاة هذه الأخيرة، وكذا من طرف الرؤساء الأولون في مختلف الدوائر الاستئنافية بالمغرب والوكلاء العامون بها. مع أنه في النظام الأساسي للقضاة الملغى والذي يعود لسنة 1974 كان هذا الانتداب من صلاحيات وزير العدل وحده، ومع ذلك سجل التاريخ القضائي أن هذه الآلية استعملت كطريقة انتقامية ضد بعض القضاة.

 كما أن إعطاء صلاحية تقييم عمل القضاة السنوي بشكل حصري إلى رؤسائهم المباشرين، أي رؤساء المحاكم حسب الدرجات، قد يشكل مدخلا من مداخل التأثير على القاضي المستقل، لا سيما في ظل غياب لجان للتقييم تعتمد على مؤشرات موضوعية واضحة، وفق ما هو معمول به في عدة تجارب مقارنة.

كذلك، كان موضوع استقلال النيابة العامة في المغرب عن وزارة العدل، من المواضيع الخلافية الحادة بين الفاعلين في مجال العدالة، خصوصا بعد المرحلة التي  تلت الدستور مباشرة، إذ اعتبرت السلطة التنفيذية ومعها جزء كبير من الفاعلين السياسين[7] أن الدستور لم يحسم في وضع النيابة العامة  من حيث الجهة التي تتبع لها بل ترك أمرها للقانون بعد الحوار، لكون الفقرة الثانية من  الفصل 110 من الدستور نصت على ما يلي : ” يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها“. وقد ذهب هذ التوجه أن إبقاء تبعية النيابة العامة لوزارة العدل يعتبر ضمانا لمحاسبتها من طرف البرلمان في موضوع تنفيذ السياسة الجنائية، فيما رآى فريق آخر في مقدمتهم الجمعيات المهنية للقضاة وبعض الفاعلين الحقوقيين والأكاديمين [8]، أن الدستور أعطى لأعضاء النيابة العامة صفة قضاة، وذلك على خلاف العديد من التجارب الدولية، ومن ثمة جعلهم خاضعين للنظام الأساسي للقضاة. كما ذهب أصحاب هذا التوجه إلى أن الدستور تحدث عن سلطة قضائية واحدة ولم يفرق بينها – أي بين القضاة والنيابة العامة -، وأن المقصود بالسلطة التي يتبعون لها والواردة في الفصل 110 من الدستور، هي السلطة الرئاسية داخل القضاء وهي إحدى خصائص النيابة العامة، وأن وسائل المحاسبة والمراقبة هي متعددة [9]، فضلا عن أن تجربة رئاسة السياسي للنيابة العامة لم تكن مثالية في الفترة السابقة[10]. وقد حسم القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الاساسي للقضاة بناء على توصية الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة هذا النقاش لصالح استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل.

 

تنصيب المؤسسات القضائية  ورهان الانتظارات

منذ سنة 2011 كانت حصيلة الاصلاح القضائي في المغرب هي صدور قانونين تنظيميين تمت الاشارة إليهما اعلاه، وقانون آخر عادي مكون من 10 مواد ينظم في معظمه الجانب الهيكلي والإداري لرئاسة النيابة العامة بعد استقلالها، كما تم تنصيب مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية من طرف الملك في شهر أبريل من سنة 2017، وتم نقل صلاحيات وزير العدل إلى الوكيل العام لمحكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة في شهر أكتوبر من نفس السنة.

ورغم أهمية هذه الإجراءات كخطوات تأسيسية ضرورية لاستقلال السلطة القضائية، إلا أنها محدودة لا سيما مقارنة بحجم الغلاف الزمني الذي استغرقته (حوالي سبع سنوات)، وهي المدة الزمنية التي كان من المفترض أن ينجز فيها أغلب خطوات الإصلاح القضائي المتطلبة.

كذلك، فإن الحركية التنظيمية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، لم تشهد فعالية من حيث الإنجاز، باستثناء القانون التنظيمي الداخلي الذي وافقت عليه المحكمة الدستورية في شهر أكتوبر 2017 بعد إدخال تعديلات عليه. وبعد مرور أكثر من سنة على تأسيس المجلس لم يتم وضع مدونة السلوك القضائي والتي تعتبر من أبرز المهام الموكولة للمجلس في هذه المرحلة. وتسعى مدونة السلوك القضائي إلى الإسهام في نزاهة القضاء، خاصة مع إشراك باقي الفاعلين من جمعيات مهنية ومحامين وغيرهم، من أجل بلورة رؤية مشتركة، تمكن الجسم القضائي بتحقيق مزيد من الشفافية والنزاهة.

وبعد مرور سبع سنوات على بدأ مشروع اصلاح العدالة يمكن رصد ثلاث تحديات تعترض هذا المسار.

التحدي الأول هو تطوير الاطار التشريعي: فعدد من القوانين تحتاج موائمة مع التطورات الدستورية والمؤسساتية والاجتماعية التي عرفها المغرب في العقود الماضية، ومن هنا أصبح ملحا مراجعة أغلب القوانين التي تعود لعقود الستينات من القرن الماضي، مثل القانون الجنائي والتنظيم القضائي والمسطرة المدنية وقانون المحاكم الادارية والتجارية وغيرها وهي قوانين تحتاج إلى تعديلات كبيرة ولم يتم اخراجها إلى حيز الوجود إلى حدود يونيو 2018. ويمكن البدئ بتنفيذ قانون التنظيم القضائي الجديد ومراجعة قانوني المسطرة المدنية والجنائية (قانون المرافعات) ثم تأتي بعد ذلك مراجعة وتحيين باقي القوانين.

التحدي الثاني هو استرجاع ثقة المواطنين في القضاء وهنا يبرز عملية تخليق منظومة العدالة كأحد الاوراش الأساسية العاجلة. فبعد تنصيب مؤسستي المجلس الأعلى للسلطة القضائية والنيابة العامة، وبغض النظر عن الإمكانات القانونية والمادية المتاحة أمامها، هناك انتظارات لدى الرأي العام حول مدى انخراطهما في الإصلاح بشكل تام من خلال إجراءات ملموسة، أهمها تكريس مبدأ الشفافية والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص وتعيين الأجدر لتحمل المسؤولية في المحاكم وخلق قنوات جديدة للتواصل الواضح مع الرأي العام. وأما المحاكم فيتعين عليها كذلك الاشتغال بطريق مختلفة تراعي تحقيق نجاعة العمل الاداري والقضائي وتحديثه حتى يحصل المتقاضي على حقوقه داخل أجل معقول وبجودة معقوله ايضا ، فضلا سن اجراءات إدارية تساعد على ولوج المواطنين الى العدالة، من خلال خلق نظام متماسك للإرشادات ورقمنة الإجراءات، بغية إنهاء عدة ظواهر سلبية عرفها محيط المحاكم، مثل السمسرة والرشوة، وأيضا تنظيم عملها بشكل علمي وفعال.

التحدي الثالث هو قيام المؤسسات القضائية بعملية تخليق ذاتي، ومن ثمة اسهامها الفعال في تخليق الحياة العامة، من خلال سياسية جنائية واضحة للنيابة العامة لمحاربة الفساد بشتى أشكاله وألوانه. ومن شأن مدونة السلوك التي سينتجها المجلس الأعلى للسلطة القضائية أن تساعد على وضع آليات للرقابة الذاتية.

 

خلاصة

ساهمت هذه الورقة، في تتبع أبرز الخطوات التي شهدها مسار إصلاح قطاع العدالة في المغرب، منذ إقرار دستور سنة 2011، وتأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية وإستقلال النيابة العامة، وأيضا إصدار القوانين المرتبطة بها، خاصة القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والقانون الاساسي للقضاة. إلا أن هذا المسار شهد بطئا من حيث الفعالية والانجاز، الأمر الذي يتطلب اليوم وبعد مرور سبع سنوات على مباشرة هذا الورش، الاسراع بوثيرة الاصلاح من طرف الجهات المختصة التشريعية والقضائية والإدارية حتى يلمس المواطن هذا الاصلاح في الخدمات القضائية على ارض الواقع وفي قيام هذا الاخير بدوره الدستوري المتمثل في “حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي ، وتطبيق القانون “(الفصل 117 من الدستور).

كما أن مرفق العدالة باعتباره مرفقا عاما ، يجب أن لا يكون مستثنى من قيم الشفافية والمساواة والتخليق، بذريعة استقلال القضاء، بل يجب أن يعطي القدوة في هذا الأمر، وعلى هذا الأساس، نوصي أن تسود شفافية التسيير عمل المؤسسات القضائية من خلال نشر مصاريف الميزانية والتحملات، ليطلع عليها الرأي العام وفق ما هو معمول به في التجارب الدولية المقارنة، كما أن التعيين بمناصب المسؤولية بهذه المؤسسات والمحاكم يجب أن تتوفر فيها أعلى مبادئ تكافؤ الفرص والجودة، من خلال سن إجراءات عملية، كنشر الاعلان عن المناصب الشاغرة وسير المرشحين وحتى المقابلات معهم، وغير ذلك من الإجراءات التي تضمن هذا الهدف، حتى يتمكن الرأي العام والإعلام من القيام بدورهم الرقابي.

 

الهوامش

[1] – من الفصل 107 إلى الفصل 128 من الدستور المغربي  لسنة 2011.

[2] – “الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة”، هيئة شكلتها وزارة العدل جمعت فيها العديد من الشخصيات والهيئات للنظر في كيفية تنزيل مبادئ الوثيقة الدستورية على أرض الواقع من خلال القوانين التنظيمية أو القوانين العادية التي تهم العدالة، وقد أشرف الملك محمد السادس شخصيا على تنصيب أعضاء لجنتها العليا  بتاريخ 12-05-2012. وخرجت بعدة توصيات اطلق عليها ” ميثاق “، وهو منشور بالموقع الالكتروني لوزارة العدل على الرابط الآتي : http://www.justice.gov.ma/lg-1/documents/doccat-0.aspx

[3]  عبد العزيز النويضي، القضاء المغربي في ظل الحراك العربي: الإصلاح الدستوري الجديد، الحوار الوطني، حراك القضاة، ص: 7 .

[4] – انظر مذكرة نادي قضاة المغرب حول هذا الموضوع في موقع النادي الإلكتروني على الرابط: ، تاريخ التصفح 08-01-2018.

[5] – موقفه المعبر عنه في كلمته الافتتاحية بمناسبة اليوم الدراسي الذي نظمه المرصد الوطني لاستقلال السلطة القضائية تحت عنوان: ” مشاريع القوانين التنظيمية للسلطة القضائية بالمغرب وسؤال استقلال القضاء” بالرباط 14-12-2013  .

[6] – يمكن الاطلاع عليهما في الموقع الالكتروني لمجلس النواب المغربي على الرابط الآتي : http://www.chambredesrepresentants.ma/sites/default/files/loi_organique_n_106.13.pdf تاريخ المشاهدة 20-01-2017.

[7] – انظر مثلا موقف الوزير السابق والبرلماني لحسن حداد في موقع الايام الاخباري  على الرابط الآتي : http://www.alayam24.com/articles-41121.html تاريخ المشاهدة 17-01-2018.

[8] – العديد من الاكاديمين عبروا صراحة عن ضرورة استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل ، منهم الباحث في القانون الدستوري احمد مفيد – انظر تصريحة لموقع العدالة التنمية على الرابط الآتي : https://goo.gl/Phjw3h

[9] – ياسين مخلي (وهو عضو للمجلس الاعلى للسلطة القضائية حاليا): استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية : تنزيل عملي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة – منشور بموقع هسربس الاخباري يوم 15-03-2015 على الرابط الآتي : https://www.hespress.com/writers/258050.html تاريخ التصفح هو 11-01-2018

[10] – تصريح عبداللطيف الشنتوف  لموقع اليوم 24 المغربي  على الرابط الآتي : http://m.alyaoum24.com/332845.html# تاريخ المشاهدة 17-01-2018

[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

عبد اللطيف الشنتوف

عبد اللطيف الشنتوف

حاصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق، وأستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط وسلا، ورئيس سابق لنادي قضاة المغرب، كاتب مقالات بعدة منابر وطنية عربية ودولية.