على الرغم من الأزمة الدبلوماسية بين الحكومتين سنة 2021، إلا أن العلاقات التجارية بين ألمانيا والمغرب حافظت على استقرارها إلى حد كبير.
تحميل المقال
تقديم
لطالما ساهم القطاع الخاص في تعميق الشراكة بين ألمانيا والمغرب مما وفر أساسًا دائمًا للتعاون، فخلال الأزمة الدبلوماسية سنة 2021 حول موقف برلين من مخطط الرباط للحكم الذاتي في الصحراء، لم تتأثر العلاقات التجارية بين البلدين كثيرار، ويمكن القول أن تآكل سلاسل الإمداد العالمية يدفع الآن ألمانيا والمغرب إلى شراكة اقتصادية أوثق.
وقد أدت صدمات الإمداد المفاجئة التي سببتها الحرب الروسية ضد أوكرانيا إلى تسريع هذه العملية، ففي السنوات التي سبقت جائحة كوفيد-19 مباشرة، كانت سلاسل الإمداد العالمية تتقلص بالفعل حيث ركزت الشركات والبلدان الأوروبية بشكل أكبر على المرونة بدلاً من المخزونات الآنية التي يخدمها الموردون الآسيويون البعيدون. كان هذا التحول الهيكلي يعني تقريب المصادر والتصنيع من الأسواق الأوروبية. لقد أدى التوجه إلى البلدان المجاورة مع الحفاظ على الميزة التنافسية إلى دفع الشركات الألمانية وغيرها من الشركات العالمية لإنشاء منشآت صناعية في المغرب، مما ساعد على تنمية مناخ مناسب للأعمال.
وفيما يتعلق بالتجارة، تحتل ألمانيا الرتبة الثامنة في قائمة أكبر سوق تصدير للمغرب، حيث بلغ إجمالي صادرات المغرب إلى ألمانيا 1.2 مليار دولار في 2021، كما تعد ألمانيا سابع أكبر مَصدر للواردات في المغرب، حيث بلغ إجمالي صادراتها أكثر من 3 مليارات دولار. وعلى الرغم من الاتساع الطفيف للفجوة في 2021 بسبب كوفيد-19، فإن الخلل التجاري بين البلدين ضئيل نسبيًا لأن الصادرات المغربية إلى ألمانيا بين عامي 2010 و 2019 نمت بأكثر من ضعف معدل نمو الصادرات الألمانية إلى المغرب. ويعكس التكافؤ النسبي أهمية المغرب كمشارك رئيسي في سلاسل القيمة في مجال التصنيع بألمانيا. وخلال نفس الفترة (2010-2019)،زادت الاستثمارات الألمانية المباشرة في المغرب من 0.18 يورو إلى 1.32 مليار يورو.
ساعد توقيع إعلان الرباط عام 2013 من قبل ووزراء خارجية ألمانيا والمغرب على دفع التعاون الاقتصادي الألماني والمغربي إلى مستوى أعلى. وقد أكد الإعلان على “الإصلاحات المؤسسية المتعلقة بالديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان والحكامة الرشيدة”، كما تضمن أيضا الالتزام “بتسخير الإمكانات في مجالات التجارة والاستثمار في الطاقة المتجددة والسياحة والأعمال التجارية الزراعية والإلكترونيات والصناعات الميكانيكية والمعدات الطبية وصناعات السيارات والطيران. “
على الرغم من أن إعلان الرباط عرف صدى اقل من توقيع لاتفاقية شراكة استراتيجية بين الصين والمغرب سنة 2016، إلا أنه مهد الطريق لمشاركة ألمانية أعمق في الاقتصاد المغربي الذي شهد ارتفاعًا بنسبة 600 في المائة في الاستثمار الألماني في المغرب من 2010 إلى 2021.
القاعدة: سلاسل القيمة الألمانية المغربية في قطاع السيارات
تعتبر سلاسل قيمة تصنيع السيارات ركيزة الشراكة الاقتصادية بين ألمانيا والمغرب، حيث تشكل منتجات السيارات، سواء المركبات أوأجزاء السيارات، أكبر فئة من الصادرات المغربية إلى ألمانيا، بحوالي 21 في المائة من إجمالي الصادرات إلى ألمانيا قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. وقد سهل مخطط تسريع التنمية الصناعية 2014-2020 نهوض قطاع السيارات في المغرب، إضافة إلى أن التطوير المتزامن للنقل عالي السرعة والسعة، حفز مصنعي السيارات الأجانب على إنشاء مصانعهم في المغرب ومن بينها شركات ألمانية. تدور صناعة السيارات في المغرب بشكل أساسي حول مصانع رونو وبوجو التي يدعمها ما يقرب من 200 مورد دولي يديرون مصانعهم المحلية.
تم تسليط الضوء مؤخرًا على أهمية المغرب في سلاسل الإمداد المرتبطة بالسيارات بعد الإغلاق المفاجئ لمصانع أسلاك السيارات في أوكرانيا بعد الغزو العسكري الروسي في 24 فبراير 2022. القطع الأساسية لتصنيع السيارات كعدة التوصيل الكهربائي وهي أجهزة تجمع الأسلاك في غلاف وقائي للاستفادة من مساحة أكبر، تحمي السيارة من الحرائق الكهربائية والدارات القصيرة التي قد تنتج عن الاهتزازات والتآكل، ولا يمكن بناء أي سيارة أو مركبة بدونها. وأدى عجز المصانع الأوكرانية على إنتاج هذه القطع الأساسية إلى نقص في أدوات التوصيل الكهربائي والأسلاك، مما أجبر الشركات المصنعة في ألمانيا، مثل بي إم دبليو وميرسيديس بينز وبورش وفولزفاغن وفورد، على خفض الإنتاج في مصانعهم.
تطلع صانعو السيارات الألمان إلى مصانع الأسلاك المغربية لسد النقص، ومن بين هذه المصانع تلك التابعة لشركة “ليوني” الألمانية الرائدة عالمياً في تصنيع الأسلاك والكابلات وأنظمة الأسلاك. قبل عشر سنوات تم تعيين “ليوني” كمورد أساسي لمجموعة PSAلتسلم مصانع بوجو-سيتروين في فرنسا وإسبانيا والنمسا وروسيا وسلوفاكيا. وكونها من أوائل المساهمين في ظهور تصنيع السيارات في المغرب، أنشأت ليوني عشرة مصانع إنتاج في المغرب، وبين سنتي 2017 و 2022 استثمرت أكثر من 60 مليون يورو في بناء العديد من مراكز التصنيع في جميع أنحاء المملكة وشغلت حوالي 17400 مغربي، إضافة لهذا فقد زادت الشركة من وتيرة إنتاجها في مصانعها بالمغرب لتغطية الإنتاج المفقود من أوكرانيا.
يهدف مخطط تسريع التنمية الصناعية 2014-2020 ذو الرؤية الإستراتيجية أيضًا إلى تعزيز مرونة قطاع أسلاك السيارات من خلال جذب مصنّعين جدد لإنشاء مصانع في المغرب. في سنة 2018، افتتح مورد ألماني آخر رائد في قطاع أسلاك وكابلات السيارات، كرومبرغ وشوبرت، مصنعًا بقيمة 41.5 مليون يورو في مدينة القنيطرة يعمل به أكثر من 3000 مغربي. وعندما واجهت شركة تصنيع السيارات التشيكية سكودا، وهي شركة فرعية تابعة لشركة فولزفاغن، نقصًا في الأسلاك بسبب انقطاع الإمدادات الأوكرانية، حولت سكودا مصنع كرومبرغ وشوبرت في القنيطرة لتأمين الإمدادات، وزاد المصنع إنتاجه وفقًا لذلك.
تعد شركة ستالشميت المتخصصة في صناعة أسلاك السيارات هي أحدث مشارك ألماني في قطاع صناعة السيارات في المغرب، وقد افتتحت في يونيو 2022 مصنعها الجديد الذي تبلغ تكلفته 11 مليون يورو في منطقة صناعة أجزاء السيارات “أوتوموتيف سيتي” بالقرب من مصنع رونو في المنطقة الصناعية بميناء طنجة المتوسط؛ وقد يشير حجم الاستثمار الإجمالي لشركة ستالشميت إلى أن الشركة تتوقع تحويل عمليات التصنيع البولندية والهنغارية إلى المغرب. أما اعتماد ألمانيا بشكل متزايد على المغرب فهو نابع من متانة قطاع تصنيع السيارات فيه . وتجدر الإشارة إلى أن شركة رونو التي تدير مصنعًا في الدار البيضاء إلى جانب مصنعها في طنجة المتوسط، تحصل على 60 في المائة من حجم المنتج النهائي من موردي السيارات المصنوعة محليا. وفي سنة 2021، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، خططت شركة ستيلانتيس لتصنيع السيارات، والتي تدير أيضًا مصنع بوجو في مدينة القنيطرة، لزيادة مشترياتها من أجزاء السيارات مغربية الصنع من 600 مليون يورو إلى 3 مليارات يورو بحلول عام 2025.
لقد أدت تنمية المغرب بعناية لقطاع تصنيع السيارات إلى قيامه بدور بالغ الأهمية في عمليات التصنيع ذات قيمة مضافة أعلى، ولا سيما إنتاج أشباه الموصلات. وتدير شركة إس تي ميكروإلكترونكس (STMicroelectronics) الفرنسية الإيطالية الرائدة في تصنيع الأجهزة المتكاملة، منشأة لإنتاج رقاقات سيارات في بوسكورة، ضواحي الدار البيضاء. ولتوسيع نطاق قدرة المغرب على تصنيع أشباه الموصلات، افتتحت الشركة خط إنتاج جديد في مصنعها في بوسكورة سنة 2021 لتصنيع رقاقات السيارات للسيارة الكهربائية الأمريكية الرائدة تيسلا، ومن خلال إنتاج رقاقات السيارات الكهربائية، أهل المغرب نفسه ليصبح أول مصنع سيارات كهربائية في شمال إفريقيا. وقد أعلنت شركة ستيلانتيس في شهر غشت من السنة الفارطة أن فرعها الألماني “أوبل” سيبدأ إنتاج السيارات الكهربائية في المغرب في مصنع شركة بوجو بالقنيطرة.
سيكون لدخول المغرب في مجال تصنيع السيارات الكهربائية آثار بناءة غير مباشرة على تطوير قطاع التعدين، حيث يحتل المغرب الرتبة 11 في العالم من حيث احتياطي الكوبالت والرتبة 13 من حيث تصدير معدن يصعب الحصول عليه لصنع بطاريات ليثيوم أيون المستخدمة في السيارات الكهربائية. ومن المرجح أن تخدم الاحتياطيات المغربية إنتاج “أوبل” للسيارات الكهربائية، كما وتسعى الشركة الألمانية بي إم دبليو لتأمين إمدادات الكوبالت وسط الطلب المتزايد على السيارات الكهربائية في أوروبا، حيث وقعت عقدًا بقيمة 100 مليون يورو في يوليوز 2020 مع شركة التعدين المغربية “مانجمنت” للتزود بـ 20 في المائة من الكوبالت اللازم لتصنيع الجيل القادم من القطارات الكهربائية بي إم دبليو.
ما وراء قطاع تصنيع السيارات: الهندسة والاستعانة بمصادر خارجية
بينما يسعى المغرب نحو عمليات تصنيع أكثر تقدمًا، تظل تكلفة العمالة فيه تنافسية للغاية حيث تمثل حوالي ربع تكلفة العمالة في إسبانيا ونصف تكلفة العمالة في بلدان أوروبا الشرقية كبولندا. ويركز مخطط تسريع التنمية الصناعية2021-2025 بشكل خاص على الابتكار التكنولوجي، كما أن هذا التقدم المستمر في المغرب في مجال التصنيع ذي قيمة مضافة أعلى يجذب المزيد من الشركات الألمانية كمثال أوبل. ومن جهة أخرى يشير إنتاج قطاع السيارات الكهربائية الألمانية في المغرب إلى جانب مهم آخر وهو التعهيد أو الاستعانة بمصادر خارجية فيما يتعلق بالهندسة، حيث تم تطوير طراز أوبل الجديد من السيارات الكهربائية ذات المقعدين داخل المركز التقني الأفريقي ستيلانيس (ATC)في الدار البيضاء، وهو مركز بحث وتطوير للتصميم والهندسة أسسته مجموعة PSA.
المهندسون في المركز التقني الأفريقي مسؤولون عن المجموعة بأكملها، وبالاستفادة من مجموعته المتزايدة من المهندسين، أنشأ المغرب خمسة مراكز للتعهيد الهندسي في كل من الدار البيضاء والرباط وطنجة وفاس ووجدة والتي تستفيد من خدماتها الشركة الألمانية “FEV” وشركات دولية أخرى، وتتوقع الرباط أن ينمو قطاع التعهيد الهندسي في المغرب بنسبة 23 في المائة بمعدل نمو سنوي مركب حتى 2025.
قام المغرب بتطوير حلول تجارية ومجال تكنولوجيا المعلومات وتعهيد العلاقات مع الزبناء، فبالإضافة إلى المواقع الخمسة السابق ذكرها استثمرت الحكومة أيضًا في قطاع التعهيد في مدينة أكادير لتعزيز التنمية في المناطق البعيدة في البلاد. وشمل التقدم الكبير في هذا القطاع أيضًا العلاقات بين الشركات الألمانية المغربية، حيث أنه في سنة 2018، دمجت “بيرتلسمان” الألمانية و”سهام” المغربية مؤسستيهما لتأسيس شركة “ماجوريل“، التي أصبحت رائدة في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، في العلاقات مع الزبناء وتعهيد الأعمال التجارية. ونظراً لكونه واحداً من المجالات الأسرع نموا في المغرب، فإن تعهيد الأعمال التجارية يكسب 1.4 مليار دولار من حجم عائدات التصدير.
يتفق هذا المجال أيضًا مع التوجه المتنام للشركات الكبرى التي تستخدم المغرب كمركز مبيعات وتوزيع لأسواقها في شمال وغرب إفريقيا، إذ قامت شركات ألمانية كـ”باسف” و”باير” و”بوش” بإنشاء مراكز تسويق وتوزيع في الدار البيضاء. وعليه، تعمل شركة “داشسر” الألمانية للخدمات اللوجستيكية والشحن على توسيع قدرتها التخزينية في المغرب لتلبية الطلب المتزايد.
ختاما
قدم التعاون التجاري في القطاع الخاص بين ألمانيا والمغرب أساسًا متيناً للعلاقات بين البلدين؛ وإن توجه الشركات الألمانية إلى تأسيس مراكز للتصنيع والتوزيع في المغرب يعمل على تعميق هذه العلاقة. إلا أنه في تناقض ملحوظ، عرف مشروعا الهيدروجين الأخضر لألمانيا والمغرب، اللذان تم تطويرهما في إطار التعاون الإنمائي بمساعدة من وكالة التنمية الألمانية (GIZ) وبتمويل من بنك التنمية الألماني (KfW)، تعثراً ناتجاً عن الأزمة الدبلوماسية سنة 2021. وحاليا يعتبر مصنع الأمونيا الخضراء المشروع الرائد في المغرب، وتبلغ قيمته 850 مليون دولار ويتم تطويره من قبل شركة تكنولوجيا الهيدروجين “فيوجن فيول” ومقرها إيرلندا وبنائه من قبل شركة “كونسوليديتد كونتراكتورز” للبناء في أثينا.
إن حاجة ألمانيا لإنشاء سلاسل قيمة أكثر مرونة وفعالية من حيث التكلفة ستقود الشركات الصناعية الألمانية إلى التفكير في الانتقال إلى المغرب. ومن خلال الانتقال من إطار عمل إنمائي إلى منظور الاتصال الأورو-أفريقي الذي يركز على النهوض بسلاسل القيمة التصنيعية للقطاع الخاص، يمكن لبرلين الاستفادة من فرصة تطوير شراكة استراتيجية مع المغرب من شأنها تعزيز موقع ألمانيا الجيوسياسي في حوض البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا.