[vc_row][vc_column][vc_column_text]
نظم المعهد المغربي لتحليل السياسات بشراكة مع المؤسسة الأوروبية للديموقراطية يوم 18 يناير 2019 النسخة الأولى من منتدى الرباط للسياسات تحت عنوان “جودة المؤسسات السياسية والاقتصادية في المغرب”. شهدت هذه النسخة الأولى مشاركة عدد من كبار الباحثين من الولايات المتحدة وقطر وفرنسا وايرلندا وتونس والمغرب، وكذلك صناع السياسات والسياسين والصحفيين. استهل الدكتور محمد مصباح رئيس المعهد المغربي لتحليل السياسات الندوة باستعراض تحوّل فكرة الاهتمام بالسياسات العامة والتحديات الاستراتيجية في المغرب إلى مشروع مركز تفكير متخصص عام 2018. وأوضح كيف تحوّلت هذه الفكرة إلى إنجاز عملي ساهم فيه هو وبقية الباحثين في المعهد. واسترجع الدكتور مصباح الهدف من منتدى الرباط للسياسات الذي ينظمه المعهد كل عام من أجل توفير منبر للحوار بين صناع السياسات والسياسيين والعلماء وتحدث عن أهمية موضوع الندوة والحاجة لتقييم أداء المؤسسات السياسية والاقتصادية في المغرب.
وأشار الدكتور مصباح الى أن اختيار سؤال “الثقة السياسية” باعتباره الموضوع الرئيسي لنسخة هذا العام من منتدى الرباط للسياسلت “ليس عشوائياً ولا اعتباطيا”. بغض النظر عن مدى أهمية الموضوع فان جل الأبحاث والدراسات المغربية والعربية قد فشلت في التطرق اليه. ويمكن أن يُعزى هذا الفشل إلى عاملين: الأول يتعلق بالبيئة السياسية التي تتميز بالرقابة والتي لا تتيح المجال للتطرق لمثل هذه الأسئلة، أما الثاني فهو عامل يتعلق بنوع من “الرقابة الذاتية” التي يمارسها الباحثون على أنفسهم.
يؤمن المعهد المغربي لتحليل السياسات أن التطرق لمثل هذه الأسئلة هو ضرورة آنية نظراً للحالة الراهنة للثقة السياسية في العالم العربي بشكل عام وفي المغرب بشكل خاص. فالثقة السياسية عامل أساسي في تعزيز التنمية الاقتصادية وإرساء الديمقراطية. وفي ضوء هذه الخلفية، قال مصباح إن منتدى الرباط للسياسات لعام 2019 يسعى إلى رصد الحالة الراهنة للثقة السياسية في المؤسسات وكيف تؤثر الثقة على التنمية الاقتصادية والانتقال الديمقراطي”. وقد تُرجمت هذه الأهداف إلى عدد من الأسئلة التي تناولها المشاركون في المؤتمر: ما هو الوضع الحالي للثقة في المؤسسات المغربية؟ كيف تؤثر الثقة في المؤسسات على التنمية والديمقراطية؟ وما هي التحديات والفرص المتاحة لبناء الثقة في المؤسسات؟
الكلمة الرئيسية الأولى: الرأسمال الاجتماعي بين الدولة والمجتمع: تأملات من الخارج إلى الداخل
في البداية، تحدث محمد الشرقاوي عن الحاجة لبلورة مخيلة سوسيولوجية كمدخل إلى دراسة العلاقة بين ذاتية الأفراد ورؤاهم والبنية السياسية. واقتبس من عالم الاجتماع الأمريكي ي. ميلز وْرايت الذي يقول “لا يمكن فهم حياة الفرد ولا تاريخ المجتمع دون فهم كليهما معا.” ويعتقد أن علم الاجتماع يثبت لنا أن “المجتمع – ليس ضعفنا وأوجه فشلنا – مسؤول عن الكثير من مشاكلنا”. ودعا الشرقاوي لتبني منظور منهجي شمولي يحفز على خروج الباحثين المشاركين في الندوة للخروج من نطاق اختصاصاتهم الأكاديمية والمساهمة في تحليل دقيق لأداء المؤسسات المغربية ، وتعاون أفضل بين نظريات الشخص ونظريات البنية ونتائج العمل الميداني. وأشار إلى الجدوى من اعتماد نظرية التعقيد كإطار توضيحي لدراسة كيفية تفاعل الأفراد والمنظمات وترابطها وتطورها ضمن نظام اجتماعي اجتماعي أكبر. ولاحظ أن هناك فجوة متنامية بين الدولة والمجتمع تدعو لتعاون جَسُور بين شتى العلوم الاجتماعية والرؤى المستنيرة. ودعا المشاركين لكي يكونوا بمثابة قبائل أكاديمية متباعدة، بل كرابطة محللين يتمتعون بعقليات متفتحة ويحملون فرضيات متنافسة ووجهات نظر نقدية تتجاوز القيود التي تفرضها الأنا ضمن ما يسمى ‘التخصّص’.
استعرض الشرقاوي تتطور نظرية رأس المال الاجتماعي عبر الأعمال الفكرية لبيير بورديو في علم الاجتماع (1984) ، وروبرت بوتنام في العلوم السياسية (1993 ، 1996)، وجيمس كولمان في علم النفس التربوي (1988)، وفرانسيس فوكوياما في التاريخ الاقتصادي (1996). وجادل منظّرون آخرون مثل جانيت هولاند بالقول إنّ رأس المال الاجتماعي يكمن بين نموذج التكامل ونموذج قائم على الظلم وعدم المساواة. بيد أن الأستاذ في جامعة أكسفورد والمدير السابق لمجموعة بحوث التنمية في البنك الدولي بول كولير يرى أن مفهوم رأس المال الاجتماعي “لا ينبغي حصره في تلك التفاعلات الاجتماعية التي لها آثار اقتصادية غير مقصودة.” فهو يؤكد على تعريف اجتماعي أوسع يشمل رأس المال الحكومة ، “بما أن مساهمة الحكومة في الدخل هي تحقيق فوائد لن تتحقق من خلال نظام السوق، وستكون هذه الفوائد دائمة لأن الحكومة هي ذاتها دائمة.”
أوضح الشرقاوي كيف أن الثقة في المؤسسات السياسية تبقى متغيرًا متحرّكا جدًا بين المواطنين والمؤسسات، ولا تتشكل من خلال تلك الشبكات الاجتماعية الثقافية فحسب، بل وأيضًا من خلال التصورات وردود الأفعال العامة في المجتمع. وقال الشرقاوي إننا “بحاجة إلى تبني منهجية البنائية الاجتماعية للمساعدة في تحديد خريطة الديناميات في تطور البنية السياسية والاقتصادية وتطور قدرات الفرد ومطالبه. ويوضح عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جيدينز كيف أن الجهات الفاعلة في المجتمع تنحو منحة التأمل مما يجسد جانبًا من جوانب العمل الاجتماعي ، وبالتالي ، جزءًا من نظرية الهيكلية. وأشار إلى أن عدة مؤشرات داخلية وخارجية تنطوي على مجموعة متنوعة من التحديات التي تحتاج المؤسسة المغربية لمعالجتها في عام 2019 وما بعده. وتناول ثلاثة تحديات أساسية: أولها، معضلة الحاءات والهاءات الثلاث: 1) الحكرة (الاحساس بالعجز وفقدان الكرامة)، والحريك (تمسك أغلب الشباب المغربي بفكرة الهجرة والسعي إلى العبور إلى أوروبا حتى في رحلة محفوفة بالمخاطر في قوارب الموت)، و”هاشتاغ” (استخدام وسائل التواصل الاجتماعي) للتنفيس عن الشعور بالضجر واليأس. ويشكل هذا المثلث في رأيه مقياسا لم ينل حظه من الدرالسة بعد من كمؤشر على حالة التذمر الاجتماعي في المغرب. 2) التآكل العمودي لرأسمال السياسي بين الدولة والمجتمع والتآكل الأفقي له داخل المجتنمع ذاته، و3) صعيد نزاع اجتماعي ممتد في البلاد.
الجلسة الأولى: الثقة بين مسار الدمقرطة ومرونة السلطوية
عقب حديث الشرقاوي، بدأت الجلسة الأولى حول محور “الثقة بين الإصلاحات الديمقراطية وصمود الاستبداد”. وكان من بين المحاضرين الثلاثة عماد الديمي عضو البرلمان التونسي والذي استعرض تطور المؤسسة العسكرية والأمنية بين مرحلتي الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ثم مرحلة الثورة عام 2011. وأوضح كيف أنّ الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي كرّسا سياسة تقليص عدد المناصب العليا على مستوى الجنرالات وكبار الضباط في الجيش. ولم تكن هذه المؤسسة العسكرية تستفيد ماليا أو اقتصاديا من النظام القائم آنذاك على خلاف حال الجيش في مصر. ولذلك، لم تكن لها طموحات في تولي السلطة كما تبين في موقف الجنرال رشيد بن عمّار، وبدا رجال الجيش خلال أحداث عام 2011 بمثابة حماة الشعب واستمدوا بذلك الشرعية المعنوية كمؤسسة غير مسيسة. على هذا المنوال، كان الجيش التونسي قبل 2011 “قليل العدد ويمارس مهام مدنية من دون مصالح اقتصادية، وفاقد للشرعية الوطنية، لأنه لمّ جيشا للتحرير على غرار الجزائر مثلا”، تحول عقب الثورة على الرئيس زين العابدين بن علي إلى جيش “حرّرته الثورة”، لأنه وقف إلى “جانب الثورة ضد النظام” ولأنه “ساهم بدور كبير في نجاح الثورة”، فقد “دُعي قائد الجيش لتولي السلطة، لكنه رفض واعتبر الجيش حاميا للثورة وليس مدافعا عن النظام”. بالمقابل، كانت المؤسسة الأمنية قوية قبل الثورة، لأن تونس كانت “دولة بوليسية” حسب تعبير الدايمي، وكانت المؤسسة الأمنية “حاميا للنظام ضد الشعب”. وأوضح إلى أن “الثورة حرّرت الجيش، كما حرّرت المؤسسة الأمنية كذلك، وربما كانت المؤسستان الأكثر استفادة منها”. وخلص الدايمي إلى القول إن الثورة التونسية خلقت مسارات للتغيير وليس مسارا واحدا، وهي المسارات التي “تطورت بعد الثورة بسرعات متفاوتة”، وفي رأيه كان “المسار الأقرب للتغيير هو تغيير الأشخاص، لكن المسار الأبعد يبقى هو تغيير العقليات، وبين المسارين هناك نسق وحلقات في التغيير تتحرك وفق وتيرة متفاوتة.”
ومن منطلق المقارنة، تناولت باولا ريفيتي وظائف الثقة السياسية في البيئات الاستبدادية بشكل عام، وارتباط مستويات الثقة السياسية في ارتفاعها وانخفاضها بالديمقراطية حسب عدة عناصر متشابكة ضمن السياقات السلطوية. وقدمت وجهتي نظر في هذا الشأن: الأولى “انعدام الثقة السياسية في السياق السلطوي”، وهذا منطق الاتجاه الثقافي والاستشراقي حسب اعتقاد بعض الباحقين الغربيين منذ الخمسينيات من القرن الماضي أن “الإسلام لا يقبل الديمقراطية”. أما وجهة النظر الثانية فهي مؤسساتية وأكثر أهمية لأنّها “تعزّز المحاسبة وتضيق الخناق على الفساد”، أي أنها تنسج بين أداء المؤسسات والثقة السياسية. وأوضحت ريفيتي أنه ”كلما تحسن الأداء المؤسساتي فإنه يساهم في تعزيز الثقة السياسية، والعكس صحيح”. غير أنه تساءلت عن المغزى من تدني الأنظمة السلطوية في مستوى الثقة السياسية باستمرار؟
أوضحت ريفيتي أن المنطقة العربية تشهد تباين الحالات ومدى ارتباط انعدام الثقة في الأنظمة الشمولية. فهي تلاحظ أن “الأنظمة الثابتة في سلطويتها مثل الجزائر، توجد بها ثقة سياسية عالية في المؤسسات وفي المجتمع المدني”. غير أن تونس التي تعتبرها “تجربة انتقال ديمقراطي” فإنها تشهد مستوى متدنيا من الثقة السياسية في المؤسسات، نتيجة عدم قدرة المؤسسات المنتخبة بعد الثورة على الوفاء بالتزاماتها ووعودها، فيما تفرض الظروف الأمنية دورها على السياسات العامة”. وخلصت ريفيتي إلى استنتاج أساسي مفاده أن “هناك حاجة لإعادة النظر في الارتباط الحقيقي بين الالتزام المدني والسياسي وبين الثقة في المؤسسات”، ليس في السياقات السلطوية بل “في البلدان الديمقراطية كذلك، حيث تسعى الحكومات للحصول على ثقة سياسية عالية، لكنها لا تحصل عليها دائما، خصوصا مع تنامي الاتجاهات الشعبوية التي تقلل من علاقة الارتباط بين الثقة والديمقراطية”. وتوصلت ريفيتي إلى خلاصة مفادها أن “السياسات يمكن أن تضعف الثقة السياسية”، وأن عدم وفائها بما هو متوقع منها، “يمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه” في السياقات السلطوية.
في الجلسة ذاتها، ركز عباس بوغالم على تفكيك “العلاقة المتوترة والسلبية” بين الدولة والمجتمع في المغرب، بعد أن تحولت الدولة إلى “جماعة ذات مصلحة خاصة منزوعة الروابط مع المجتمع، ومهد هذا لانفصال حقيقي وعميق بينهما”. كما أن “التمثل السلبي للدولة في المخيال الجمعي جعل منها عبثا ثقيلا بالنسبة للمواطنين. وبالتالي، تتعالى خيبة الأمل في التوقعات التي كانت معلقة على الدستور الجديد الذي تم التصويت عليه عام 2011 وسط حركية مسلسل الربيع العربي باتجاه توافق المؤسسة السياسية والمجتمع المدني وشتى الفاعلين الاجتماعيين على صيغة بديلة للتعاقد الاجتماعي. وتناول أيضا التحولات المعيارية وتذبذب منظومة القيم في صفوف الشباب مما مهد “لتغيرات على مستوى منظومات الوعي والإدراك، أدت إلى خلخلة العلائق التقليدية التي ظلت تحكم الدول بمجتمعاتها، ومن تم ضعف الروابط بين الأجيال الحالية والدول القائمة”، لأن التعاقدات السابقة “لم تكن شاهدة عليها ولم تساهم في رسمها”.وشدد بوغالم على أن “ردم الهوة بين الدولة والمجتمع، بما يتيح تعزيز الثقة في مؤسساتها وخياراتها السياسي، يقتضي ضرورة أن تحترم الدولة تعاقداتها السياسية والاجتماعية، بشكل يحفظ ويحصن إرادة واختيارات المواطنين”. وأوضح أن هذا التعاقد يشكل عملية تركيبية جديدة وتجديدا سياسيا للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
واستشرف بوغالم مدى الحاجة الماسة للإصلاح من بوابة التوصل إلى “تعاقد اجتماعي جديد” يقتضي القبول بقطائع على أكثر من مستوى. أولاها “تكريس دستورانية تعاقدية”، و”دولة مدنية حديثة تقطع مع الشكل التقليدي، ومع التمثل الشخصي للسلطة”، و”تكوين فضاء سياسي مستقل، بفاعلين يتمتعون بالاستقلالية، ويتوفرون على الحرية في الفعل والمبادرة، لأنه يستحيل إبرام تعاقد جديد بدون تنظيمات قادرة على ممارسة استقلاليتها”، مؤكدا أن المنطقة بحاجة إلى “هيئات جديدة تمثل الأجيال الصاعدة”، و”تأسيس جيل جديد من مؤسسات الوساطة”.
الجلسة الثانية: الثقة في مؤسسات الدولة
وبعد الجلسة الأولى التي جمعت بين الطرح النظري والمقارن، حاول المشاركون في الجلسة الثانية تفكيك خلفيات انعدام الثقة في مؤسسات الدولة المغربية في ضوء انتشار الفساد وضعف آليات المساءلة والمحاسبة. وشدد محمد براو على أن تعزيز الشفافية والمحاسبة يشكل العمود الفقري في عملية بناء الديمقراطية وحكم القانون. وانطلق في تحليله من تقرير المجلس الأعلى للحسابات كمؤشر مهم في فهم طبيعة القرارات العقابية التي تبناه المغرب للحد من الفساد خلال عام 2018 وهو العام الذي لوّح فيه الملك محمد السادس باحتمالية “الزلزال السياسي”. وذكّر بأن “الفساد كان المحرك الرئيسي للاحتجاجات عام 2011، والتي كان شعارها مكافحة الفساد والاستبداد”. ويتبنى براو مفهوم الفساد وفق المعادلة التالية: “احتكار السلطة + غياب الشفافية – المحاسبة”، وهي بالتالي نقضي لمفهوم النزاهة “الشفافية + المحاسبة – احتكار السلطة”. وأوضح كيف أن مكافحة الفساد غذت ضمن وظائف أجهزة الرقابة في المغرب. فقد تم تأسيس هيئة مركزية لمكافحة الرشوة التي تحوّلت إلى “جهاز لمكافحة الفساد بحكم الأمر الواقع” عام 2007، وهي الهيئة التي تأسست في صيغة ثانية سنة 2017 في سياق تميز بمواصلة “تنزيل دستور 2011، وبعد الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في نهاية ولاية الحكومة السابقة”.
واوضح براو الشروط الأساسية لأجهزة الرقابة التي تبعث على الثقة لدى المواطنين، ومنها “الاستقلال عن الضغوط السياسية”، وأن تحظى بـ”الاستقلال العضوي والبشري، وبالحياد، وأساسا بالاستقلال الوظيفي”، وهو “الأهم” حسب وجهة نظره. أما الشرط الثاني في أجهزة الرقابة التي تمهد لبناء الثقة فهو الفعالية، أي قدرة المؤسسة على تنفيذذ جميع مهام الاختصاص المنوطة بها، والتأكد منه من خلال تقرير خارجي مستقل. وحدّد الشرط الثالث في “المهنية أو الاحترافية”، بالنظر إلى أن عمل بعض أجهزة الرقابة “تعرّضت لعدة انتقادات، بحجة أن هناك شفافية ناقصة في انتقاء التدخلات، وفي إعداد التقارير، وهي الانتقادات التي يفترض الرد عليها من قبل الجهاز المعني”. وتعد الشفافية والمسؤولية من الشروط التي حددها براو لجهاز يبعث عمله على الثقة، ويقتضي ذلك الإفراج عن المعلومات التي يتوصل إليها، وأن يكشف عن كيفية اشتغاله، وعن مآل التوصيات، ومردودية المؤسسة، وأن تكون أمام مؤسسة ذات قيمة… تعزز صورة المغرب كبلد يكافح الفساد.
أما عبد اللطيف الشنتوف فتناول أهمية الإصلاحات وآثارها على التڨة في العدالة المغربية بعد دستور 2011. واستعرض كيف أنّ حصيلة الإصلاحات القضائية في المغرب كانت “هزيلة” منذ 2011. وتناول التصديق على قانونين تنظيميين، وقانون آخر عادي يشمل 10 مواد تنص في في معظمها على تنظيم الجانب الهيكلي والإداري لرئاسة النيابة العامة بعد استقلالها. كما قرر الملك تنصيب مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية في أبريل 2017، فيما تم تحويل صلاحيات وزير العدل إلى الوكيل العام لمحكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة في أكتوبر من العام ذاته.
تناول الشنتوف أيضا الإصلاحات التي شهدها قطاع العدالة وأثرها على مؤشر الثقة. من الإصلاحات التي توقف عندها المتحدث “دستور 2011 الذي تحول معه القضاء من جهاز إلى سلطة”، و”إشراك المجتمع المدني في تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية على غرار تجارب عالمية”، كما تم “الارتقاء بمجموعة من المبادئ تهم حقوق المواطنين إلى قواعد دستورية مثل قرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة”. ويخلص الشنتوف إلى القول إنه “جرى تنزيل تلك المبادئ من خلال مؤسسات وقوانين”، بعد “إطلاق حوار وطني من أجل إصلاح منظومة العدالة”، لكن “الذي ميّز هذه المرحلة هو البطء الشديد، فلم يصدر لحد الآن سوى قانون تنظيمي خاصة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وقانون تنظيمي آخر خاص بالقضاة، ثم قانون جزئي صغير يهم رئاسة النيابة العامة، ولم تصدر بعد كل القوانين التي تهم المواطن مثل القانون الجنائي والمسطرة الجنائية وقانون الالتزامات والعقود وغيرها من القوانين”.
في الجلسة الثانية أيضا، استعرض رشيد أوراز مدى أهمية ثقة المستثمرين في المؤسسات السياسية باعتبارها “عاملا أساسيا في النمو الاقتصادي، وفي خلق الثروة، بل إن الاستثمارات هي ما يجعل بلدا ما يتقدم اقتصاديا”. وشدد على أهمية المؤسسات في بناء الثقة السياسية، لأن المؤسسة تهدف أساسا إلى وضع القيود على تصرفات وقرارات السياسيين والنخب المتنفذة من أجل حماية مصالح الأفراد وحرياتهم الأساسية، وذلك لتحقيق غاية بناء الثقة بين الأفراد. وعلى هدي المقولة الشهيرة “رأسمال جبان”، فإن انعدام الثقة في صفوف المستثمرين يؤدي إلى “الامتناع عن الاستثمار”. لكن على خلاف ذلك، يمكن أن تؤدي الثقة في المؤسسات إلى تشجيع الاستثمارات.
ودعا أوراز للتمييز بين نوعين من الاستثمارات: 1) أجنبية تأتي من الدول المتقدمة أساسا، وتنقل معها تقنيات وخبرات مرافقة للرأسمال تؤدي الى رفع الجودة، وإنتاجية العمال، وبالتالي النمو والتقدم، و 2) داخلية يقوم بها رجال أعمال لديهم المال ويبحثون عن تطويره أكثر. وفي الحالتين يعد وجود الثقة حافزا مهما للاستثمار الخارجي أو الداخلي، أما في حالة ضعف الثقة فإن الاستثمار قد ينقطع ويتراجع. وأشار أوراز إلى النغرب يفقد القدرة حاليا على جلب الاستثمارات الخارجية، خصوصا الشركات الأجنبية الكبرى، بسبب ضعف ثقة الشركات والمستثمرين الكبار في العالم في المؤسسات المغربية. في الوقت ذاته، تشكل الاستثمارات الحكومية المغربية في الداخل الجزء الأهم في الاستثمار المحلي، مما يستهلك 20 في المائة من حجم الثروة سنويا، وهي نسبة مرتفعة مقارنة مع 14 في المائة في الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة ، و11 في المائة في سنغافورة. أما المؤشر الثاني على ضعف جاذبية المغرب في الاستثمارات بسبب ضعف الثقة في المؤسسات، فهو مستوى حماية الملكية الخاصة، وقال أوراز إن المغرب يصنف ضمن الدولة التي لا تستطيع مؤسساتها حماية الملكية الخاصة بمعدل 5,68 من 10، ويعني ذلك أن “المؤسسات السياسية والاقتصادية غير قادرة على حماية الاستثمار والملكية الخاصة”، ما يقتضي في نظر الباحث “القيام بإصلاحات اقتصادية وسياسية عميقة”.
الكلمة الرئيسية الثانية: الثقة السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الخصوصيات والقواسم المشتركة مع الديمقراطيات الراسخة
في النصف الثاني من الندوة بعد الظهر، تناولت صونيا زمرلي موضوع الثقة السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الخصوصيات والقواسم المشتركة مع الديمقراطيات الراسخة من منطلق السؤال العريض: “ما الذي يجعل نظاما سياسيا معينا مستقرا؟” فأوضحت أن مقومات اي نظام مستقر هو أن “يتوفر على مؤسسات تعمل في انسجام، ويحظى بشرعية سياسية، أي قبول المواطنين”، وقبول وتأييد المواطنين يعني أن لديهم “ثقة سياسية” في النظام القائم. لكن هذا المعطى يثير إشكالات، ذلك أن الوقائع تشير إلى أن الثقة السياسية قد يحظى بها النظام الديمقراطي وايضا النظام السلطوي. ويختلف منسوب الثقة داخل الأنظمة الديمقراطية ذاته بين الدول الإسكندنافية التي تشهد ثقة سياسية عالية والدول الديمقراطية في جنوب أوربا التي تتمتع مؤسساتها بثقة سياسية أقل. وتكمن المفارقة الأخرى في وجود تفاوت في الثقة بين مؤسسة وأخرى داخل المجتمع الديمقراطي الواحد. فقد تكون الثقة في الشرطة والجيش مرتفعة جدا، وهذا يعني عادة أنها مؤسسات محايدة في الصراع السياسي، على خلاف الأحزاب والحكومات حيث تكون الثقة أقل بسبب النزاع ذاته. وخلصت زمرلي إلى القول إن هناك “علاقة تبادلية” بين المواطن والحكومة في السياق الديمقراطي، وأن “وجود مؤسسات سياسية موثوق بها، معناه وجود سياسيين ينصتون أكثر إلى مواطنيهم واختياراتهم”. وأضافت أنه “عندما تستجيب الحكومة لحاجيات المواطنين، فهي تبني علاقة إيجابية معهم، مما يساهم في تعزيز الثقة السياسية، بل قد يتعدى ذلك إلى بناء ثقة اجتماعية أعمق”.
الجلسة الثالثة: الحركات الاجتماعية والمواطنة والثقة السياسية
ركزت الجلسة الثالثة على موضوع “الحركات الاجتماعية والمواطنة والثقة السياسية”. فأوضحت جيكوبز كيف أن المؤسسة الملكية، وليس البرلمان، تظل “الفاعل الأقوى والرئيسي في المغرب، وهي من يحدد قواعد اللعبة السياسية”، بينما “يعد البرلمان فاعلا هامشيا، وذا دور محدود في عملية التحديث والديمقراطية”. وربطت بين الدور المحدود للبرلمان وارتفاع وتيرة الاحتجاجات في السنوات الأخيرة، وسط مؤشرات جديدة على“التقلص المتزايد في هامش حرية التعبير في المغرب.” وعزت ذلك التقلص إلى وجود “عشرات المعتقلين في السجون بسبب الاحتجاج، من بينهم صحافيون ونشطاء في المجتمع المدني”. وقالت إن “المغاربة يحتاجون لمن يستمع إليهم، خصوصا وأن لهم تاريخا طويلا في ممارسة دور المعارضة”. خصوصا وأن “الاحتجاج السلمي موجود، ويعبر عن نفسه بطرق مبتكرة، مثل مقاطعة منتوجات استهلاكية”. بيد أن جيكوبز أضافت أن “هناك ثقة كبيرة في المؤسسة الملكية” بالنظر إلى أنه “ليست هناك مؤسسات قادرة على القيام بدور المعارضة، خاصة في سياق النزاعات”. لكنها شددت على أن “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تعتبر حالة فريدة في السياق المغربي، لكونها أكبر منظمة حقوقية والأكثر أهمية في المعارضة”.
في الجلسة ذاتها، ركزت أنجريد الشكدالي على العلاقة بين الثقة السياسية والابتعاد عن التسييس. وتقصد بعبارة الابتعاد عن التسييس “الخروج من النقاش السياسي”، أو “المشاركة الضعيفة للمواطن في الشأن السياسي”، ويطرح ذلك “مشكل الشرعية”، فالذين “يشاركون في الحراك الثوري لا يريدون المؤسسات السياسية القائمة”. وأوضحت كيف أن الابتعاد عن التسييس “ظاهرة استفاد منها التكنوقراط أساسا في المغرب في عدة فترات عندما “انتقل عملية اتخاذ القرار من يد السياسي إلى يد التكنوقراطي، فغذا العمل السياسي أقل جاذبية للمواطنين، مما دفع المواطنين إلى الابتعاد عن السياسة”. وأوضحت آنجريد كيف أن “التكنوقراط كانوا فئة قوية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وذلك على حساب السياسة.” ودعت لتعزيز دور المؤسسات السياسية من أجل بناء علاقة ثقة أفضل مع المواطنين، على أساس أنه كلما قامت المؤسسات السياسية بدورها أكثر في خدمة المواطنين والتفاعل مع حاجياتهم والتعبير عن تطلعاتهم، كلما ارتفع مؤشر ثقة المغاربة في المؤسسات السياسية.
أعد التقرير:
حنان السرغيني، كلية الحقوق في جامعة عبد المالك السعدي، طنجة[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]