[vc_row][vc_column][vc_column_text]
يعتمد إصلاح القطاع الأمني في البلدان المغاربية على طبيعة كل نظام سياسي ووضع النزاع ما بعد 2011
تحميل المقال
ملخص
يمثل إصلاح القطاع الأمني (SSR) مصدر قلق رئيسي في المشهد الحالي للانتقال السياسي نحو الديمقراطية في البلدان المغاربية، كما أنه يكتسي أهمية خاصة بالنظر إلى الأدوار الأساسية والتاريخية للأجهزة الأمنية ودورها في الحفاظ على الأنظمة الاستبدادية في المنطقة. كما تعتمد عملية إصلاح القطاع الأمني اعتمادًا كبيرًا على طبيعة النظام السياسي في البلدان المغاربية وعلى وضع النزاع الحالي والذي يتسم بكونه أكبر معركة من أجل التغيير والانفصال عن النظام الاستبدادي، ذلك أن هناك تفاوتات كبيرة في جميع أنحاء البلدان المغاربية في سياق إصلاح القطاع الأمني وشروط تنفيذه حيث تختلف الأولويات والاحتياجات اختلافًا كبيرًا من بلد لآخر.
المقدمة
يمثل إصلاح القطاع الأمني (SSR) مصدر قلق رئيسي للمشهد الحالي للتحول السياسي نحو الديمقراطية في البلدان المغاربية، كما أنه يكتسي أهمية خاصة بالنظر إلى الأدوار الأساسية والتاريخية للأجهزة الأمنية في الحفاظ على الأنظمة الاستبدادية في هذه المنطقة، حيث تعتمد عملية إصلاح القطاع الأمني اعتمادًا كبيرًا على طبيعة كل نظام سياسي في البلدان المغاربية وعلى وضع الصراع الحالي الذي يوصف على أنه أكبر معركة من أجل التغيير والانفصال عن النظام الاستبدادي. وما زالت الإصلاحات الأمنية والمبادرات المختلفة التي أطلقتها هذه الدول تقتصر حتى الآن على مكافحة الإرهاب، ومع ذلك، فمازالت الخطوات نحو الحكامة الأمنية الرشيدة فيما يتصل بالمساءلة والشفافية والرقابة الديمقراطية أقل وضوحًا.
تهدف هذه المقالة إلى شرح ضرورة وأهمية إصلاح القطاع الأمني في البلدان التي تمر بمرحلة انتقال ديمقراطي، وإلى التطرق إلى الفرص والتحديات المرتبطة بنجاح إصلاح القطاع الأمني في البلدان المغاربية التي شهدت تجارب مختلفة في هذا الصدد. ينقسم هذا المقال إلى ثلاثة أجزاء: يتناول الجزء الأول المفهوم النظري الدقيق لإصلاح القطاع الأمني، ويركز الجزء الثاني على العلاقة المعقدة بين إصلاح القطاع الأمني والانتقال الديمقراطي، فيما يتناول الجزء الثالث دراسة حالة كل من الجزائر والمغرب وتونس وليبيا.
ماذا يقصد بمفهوم إصلاح القطاع الأمني؟
قبل التطرق إلى إصلاح القطاع الأمني في البلدان المغاربية، من المهم في بادئ الأمر تقديم نظرة عامة موجزة عن هذا المفهوم الجديد نسبيًا والذي ظهر في مجال الدراسات الأمنية في نهاية التسعينيات. يُعرف إصلاح القطاع الأمني على أنه عنصر أساسي في تعزيز الديمقراطية ودعم التنمية ومنع نشوب النزاعات والنجاح في بناء السلام بعد انتهاء الصراع [1]. تكمن الفكرة الأساسية التي تدعم إصلاح القطاع الأمني في ضرورة ضبط الخدمات الأمنية وخضوعها للمساءلة أمام السلطات المدنية المنتخبة على أساس الديمقراطية، مع ضرورة تقديمها وفقًا لمبدأ سيادة القانون [2].
وفي هذا الصدد، يشمل إصلاح القطاع الأمني مفهومين مشتركين: الأمن والحكامة. لقد شهد كلا المفهومان تغيرًا في العقود الأخيرة منذ نهاية الحرب الباردة، فمفهوم الأمن لم يعد يُفهم اليوم باعتباره يتمحور حول الدولة أو يتصل بالتهديدات العسكرية فقط بل أصبح يمتد ليشمل القضايا غير العسكرية التي تؤثر على الدول والأفراد والشعوب. أما الحكامة فتتصل بطرق تلبية إدارة المؤسسات والقضايا الأمنية لاحتياجات المواطنين والدولة[3]. تضم الحكامة الرشيدة جميع الجهات الأمنية المشاركة في عملية صنع القرار ليس فقط بمجرد الرجوع إلى القوات المسلحة والشرطة وأجهزة الاستخبارات ولكن أيضا بالرجوع إلى المؤسسات الدستورية والسياسية والتي من المتوقع أن ترشدهم وتشرف عليهم[4]. ففي عام 2005، أشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى أن: “إصلاح القطاع الأمني يسعى إلى زيادة قدرة الدول الشريكة على تلبية مجموعة الاحتياجات الأمنية داخل مجتمعاتها بطريقة تتوافق مع المعايير الديمقراطية ومبادئ الحكامة السليمة وسيادة القانون، حيث يمتد إصلاح القطاع الأمني إلى ما هو أبعد من التركيز الأضيق للمساعدات الأمنية التقليدية على الدفاع وأجهزة الاستخبارات وحفظ الأمن”[5].
تحديات مشتركة أمام الحكامة الأمنية في البلدان المغاربية
لقد شكّلت الاحتجاجات السياسية التي اندلعت في المنطقة العربية في عام 2011 حدثًا فريدًا مهّد الطريق أمام التحولات السياسية الديمقراطية بالمنطقة سعيًا لوضع عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع. لقد أتاح هذا الحدث التاريخي فرصة لإصلاح القطاع الأمني باعتباره جزءًا لا يتجزأ من العملية الديمقراطية. وبالنتيجة، فإن محمد البوعزيزي التاجر الذي دفع إلى اندلاع شرارة “الربيع العربي” عندما أضرم النار في نفسه احتجاجًا على مضايقات وإذلال شرطية له والذي أدى إلى قيام الثورة التونسية ثم اندلاع الربيع العربي على نطاق أوسع. والواقع أن الربيع العربي كان مدفوعًا بالاستياء الواسع الانتشار من قوات الأمن حيث كان الكثيرون ينظرون إليها على أنها أدوات قمع. ومع ذلك، وبالرغم من أهمية إصلاح القطاع الأمني فلا يزال النقاش العام والأكاديمي حول هذا الإصلاح في البلدان المغاربية أمرا ناشئًا ومركّزًا على الدور القمعي لأجهزة الأمن[6].
يواجه إصلاح القطاع الأمني في البلدان المغاربية تحديات كبرى تتجلى في عدة مستويات. أولى هذه المستويات يتمثل في الترويج لصورة جديدة للأنظمة الأمنية والذي يتطلب تحويل التصورات المرسومة عن الأجهزة الأمنية من أجهزة تعتمد على الإكراه إلى أجهزة مسؤولة وشفافة ومهنية. لقد كانت انتفاضة 2011 حدثًا حاسمًا للوقوف على درجة عدم الرضا من أفراد الأمن لأن الشرطة كانت قد أصبحت مصدرًا للضيق لفترة طويلة بدلًا من كونها حاميًا ومساعدًا للشعوب وذلك بسبب الاعتقالات التعسفية وأساليب الاستجواب القاسية والإساءات اللفظية والاعتداءات الجسدية والتعذيب والاعتقالات بدون محاكمات. لقد كانت للقوات المسلحة والشرطة وأجهزة المخابرات سلطة أكبر من المؤسسات السياسية وكانت مهماتها مكرسة في المقام الأول على الحفاظ على الأنظمة المتقلدة للسلطة بدلًا من ضمان أمن الدولة والمواطنين. وفي هذا الصدد، أوضح دونالد بلانتي ما يلي: “(…) فقبل الربيع العربي، شُكّلت القطاعات الأمنية في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لضمان انضباط الشعوب أمنيًا، غير أن الشرطة ركزت على مراقبة الأنشطة السياسية أكثر من تركيزها على تطبيق القانون كما قامت وكالات المخابرات بالتجسس على المواطنين”[7]. وفي السياق نفسه، قال توفيق أكليماندوس: “(…) لقد دفع انخفاض الشرعية المصاحب للانخفاض الحاد في مستويات أداء مؤسسات الدولة النظام إلى الاعتماد بشكل متزايد على الأجهزة الأمنية والتي استغلت دورها المحوري وسلطتها الكبرى لتشديد الخناق على المواطنين، من جهة وغرس مخالب اقتصادية وبناء شبكات فساد من جهة أخرى[8].
ومن المعيقات الإضافية هناك أيضا النخب الأمنية للنظام القديم والتي لا تؤمن بجدوى الإصلاح وترى أن الأمور الأمنية غير قابلة للنقاش وتتعامل بحذر مع أي شكل من أشكال الإصلاح الديمقراطي لأن الديمقراطية ستضعف تأثيرها ومزاياها في نهاية المطاف. ويُقصد من ذلك أن الثقافة الموروثة من الأنظمة الاستبدادية تبدو عائقًا أمام أي إصلاح حقيقي للقطاع الأمني. وبالتالي، يجب أن ينصب التركيز على إعادة تأسيس الجيش والشرطة وأجهزة المخابرات وإعادة تشكيلها، على أن تكون هذه القوى الأمنية الثلاثة في بؤرة إصلاح القطاع الأمني المتجه نحو الديمقراطية ويجب أن يرتكز الهدف الأساسي على إنشاء قطاع أمني مهني ومحترف في ظل حكم ديمقراطي، مع تفويض دقيق واستخدام مناسب للموارد. وبدون هذه التوجيهات للإصلاح، سيكون من الصعب تحقيق الانتقال الديمقراطي الموحد في البلدان المغاربية.
التجارب الوطنية المختلفة في البلدان المغاربية
يعتمد إصلاح القطاع الأمني على البيئة التي تتطلب الإصلاح، ولهذا، فمن المهم تسليط الضوء على السياقات المؤسساتية المختلفة في جميع أنحاء البلدان المغاربية لأن هذه الاختلافات في السياق والظروف المحيطة مهمة للغاية ويجب وضعها في الاعتبار لتنفيذ أي إصلاح في القطاع الأمني. تختلف الأولويات والاحتياجات في كل بلد اختلافًا كبيرًا. فعلى سبيل المثال، كان الجيش في الجزائر هو الركيزة الأساسية للنظام، أما في تونس فقد كان دور الجيش السياسي مهمّشا للغاية. وفي ليبيا، في عهد القذافي، كان الجيش مهمّشا لصالح الحرس الثوري. وفي المغرب، تغيّرت طبيعة دور الجيش من الطبيعة السياسية إلى طبيعة غير سياسية.
الجزائر: السلطة الهائلة للجيش وأجهزة المخابرات
ما هي احتمالات تطوير حكامة القطاع الأمني في الجزائر؟ للرد على هذا السؤال، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الدور المهيمن للجيش في تاريخ الدولة ككل وكذلك التحديات الأمنية المعاصرة المتصلة بالمصالحة الوطنية بعد الحرب الأهلية التي اندلعت في التسعينيات من القرن الماضي بالإضافة إلى الإرهاب وأمن الحدود.
فعلى مدار التاريخ، كان للقوات المسلحة تأثير كبير على السياسات. ومن وجهة نظر النخبة العسكرية الجزائرية، فإن هذا النفوذ يبرره إرث حرب الاستقلال (1954-62)، فقد برز دور الجيش الجزائري في هذه المرحلة وأكد على استمرارية شرعيته في إطار التجربة الاستعمارية وحرب التحرير. أما العلاقات المدنية العسكرية في الجزائر فكانت ولا تزال متأثرة بتحول الجيش الجزائري من قوى ثورية إلى قوى مسؤولة عن إعادة الإعمار بعد الاستقلال [9].
بدأت سيادة الجيش وتدخله في المجال السياسي بانقلاب عسكري في عام 1965 والذي أطاح بالرئيس الجزائري الأول “أحمد بن بيلا” من السلطة واستبداله بهواري بومدين. ومنذ ذلك الحين، أصبح الحزب الفريد (جبهة التحرير الوطني) امتدادًا للجيش في الحياة السياسية وسهل سيطرة الجيش على المؤسسات السياسية والمدنية على المستويين الوطني والمحلي [10]. وبالإضافة إلى ذلك، فقد اكتسب الجيش المزيد من الدعم الشعبي والمكانة المحلية في أثناء إعادة الإعمار بفضل أنشطته الاقتصادية والاجتماعية مثل دوره في تنفيذ مشروعات التنمية الريفية، ونظر الشعب إلى الجيش أيضًا على أنه القوى الضامنة لتطبيق القانون وحفظ النظام. وبعد ذلك، أصبح الجيش يمثل مجموعة النخبة الرئيسية سواء في تكوين الدولة أو في التسلسل الهرمي السياسي من خلال وضع المبادئ الأساسية التي تعد أساسًا لأفعاله: الشعب والثورة ووحدة الدولة [11]. بالنسبة لجوني وسلينك، فإن: “من السمات المهمة الأخرى للجيش الجزائري توجههم الأيديولوجي بفضل تدريبهم سواء في فرنسا أو في الاتحاد السوفييتي. إنهم يؤمنون “بالجزأرة” التي تشمل عناصر قوية مستعارة من القومية والاشتراكية” [12].
وقد برز الدور الحاسم للجيش في الحياة السياسية في الجزائر بفضل العديد من التطورات والتكيفات طوال كل فترة رئاسية [13]. وحصل بومدين (1965-1978)، الذي احتفظ أيضًا بمنصب وزير الدفاع، على دعم الجيش للحفاظ على سيطرة كبرى على العملية السياسية الجزائرية وأطلق خليفته الشاذلي بن جديد (1979-1992) عملية تحرير سياسي وأدخل نظام التعدد الحزبي بعد الانتفاضة الشعبية في أكتوبر 1988 [14]. ومع ذلك، فإن خيارات المناورة لهذا الرئيس كانت محدودة للغاية لأنه لم يستطع فصل الجيش عن السياسة [15].
وفي عام 1992، تدخل الجيش لإجبار بنجديد على الاستقالة من السلطة وأنهى العملية الانتخابية وفرض حالة الطوارئ. وفي أثناء التسعينيات من القرن العشرين والمعروفة أيضًا “بالعقد الأسود” بسبب تفاقم الإرهاب كانت النخبة العسكرية هي التي تختار كل الرؤساء وكان أي أمر سياسي يتطلب موافقة الجيش الذي أصبح في الصدارة في مواجهة الإسلام السياسي [16]. ونتيجة للردود العسكرية العنيفة والقاسية على هذه الأحداث، فقد الجيش الجزائري جزءًا من الدعم الشعبي والشرعية الشعبية.
وفي أثناء فترة رئاسة عبد العزيز بوتفليقة الذي تقلد منصبه في عام 1999 واستمر حتى شهر إبريل 2019، كانت هناك محاولات لاستعادة التوازن بين السلطة الرئاسية والجيش وكانت هناك العديد من العوامل التي أتاحت فرصًا معينة لتقليص الدور السياسي للجيش مثل إصدار “ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” والذي حظي بدعم شعبي عام ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر والتي جعلت الجزائر تُصنّف كحليف للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الحرب العالمية ضد الإرهاب. إلا أن مشروع بوتفليقة لتعزيز السلطة الرئاسية وُوجه بمقاومة من النخبة العسكرية التي لم تقتنع بضرورة الإصلاحات السياسية. وبوجه عام، وبالرغم من هذه التطورات اللاحقة بقيت طبيعة النظام الجزائري كما هي دون تغيير [17]، أي أن الجيش ظل صانع القرار الرئيسي في البلاد. وفي هذا الصدد، يميز الهواري عدي بين السلطات الرسمية التي يمارسها الرئيس والحكومة [18] والسلطة الحقيقية التي يحتفظ بها الجيش وأجهزة المخابرات العامة والتي تشكل الركيزة الثانية للنظام الجزائري. ففي عام 2016، حل بوتفليقة دائرة الاستعلام والأمن، مصلحة أمن الدولة القوية، واستبدلها بمديرية المصالح الأمنية لتقليص نفوذها في السياسة الجزائرية.
يشكل انخراط الجيش في السياسة تحديًا كبيرًا أمام إنشاء نظام ديمقراطي للحكامة الأمنية [19]، فمما لا شك فيه أن فصل الجيش عن السياسة الجزائرية شرط مسبق لنجاح إصلاح القطاع الأمني، حيث سيكون من غير الواقعي للغاية تعزيز الإصلاحات الأمنية دون تقليص النفوذ الهائل للجيش في الحياة السياسية. هذه المهمة غير يسيرة لبلد يمر بمرحلة انتقالية من نظام استبدادي يحكمه الجيش إلى نظام ديمقراطي. ومع ذلك، فليس من المستحيل التغلب على مثل هذا النوع من العوائق، أي بعبارة أخرى فإن الثمن الواجب دفعه هو تعزيز التوافق بين المدنيين والعسكريين للتوصل إلى مجموعة محددة من ضمانات الخروج لمنع الجيش من إعاقة التحول الديمقراطي.
وبالتالي، فإن الجزائر من أكثر الدول التي يواجه فيها إصلاح القطاع الأمني مشكلة معقدة في البلدان المغاربية نظرًا لهيمنة المخابرات والجيش. وكما قال مصطفى محمد، فإن إصلاح القطاع الأمني في الجزائر يتطلب “إصلاح الدولة” [20].
المغرب: الفساد والاختصاصات الملكية الواسعة ونزاع الصحراء
تختلف المشكلات التي يواجهها المغرب فيما يتعلق بإصلاح القطاع الأمني عن مشكلات الجزائر في بعض الأمور، حيث يرى عبد الله ساعف أن النقاش حول الحكامة الأمنية في هذا البلد مؤطر ضمن شروط عملية ديمقراطية مستمرة [21]، فمنذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين شهد المغرب لحظات من الانفتاح السياسي [22] قبل الربيع العربي. ومن بين هذه الخطوات الإصلاحية التدريجية نجد انتخابات عام 1997 والتي سمحت للمعارضة الاشتراكية للوصول إلى السلطة. وفي عام 2011، صدر دستور جديد وأجريت انتخابات برلمانية مبكرة بتاريخ 25 نونبر/ تشرين الثاني من نفس العام مما سمح لحزب العدالة والتنمية وهو حزب إسلامي معتدل بقيادة الحكومة، وقد كانت كل هذه التغييرات السياسية مصحوبة بإصلاحات اجتماعية واقتصادية.
وبالإضافة إلى ذلك، أوقف المغرب مسيرة العدالة الانتقالية في عام 2004 في عهد الملك محمد السادس مما أدى إلى إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة. لقد كانت مهمة الهيئة هي التحقيق في مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان السابقة التي ارتكبتها قوات الأمن في الفترة اللاحقة لاستقلال المغرب من 1956 إلى 1999 للتوصل إلى حقيقة تلك الانتهاكات ودفع تعويضات للضحايا وأسرهم والتوصية بالتدابير اللازمة لمنع أي انتهاكات مشابهة في المستقبل [23]، حيث توصلت الهيئة إلى مسؤولية الدولة عن الانتهاكات السابقة وخلصت إلى أن انتهاكات حقوق الإنسان كانت نتيجة للافتقار إلى الرقابة الديمقراطية على الأجهزة الأمنية. وقدم التقرير النهائي لهذه الهيئة عدة توصيات للحكومة المغربية بشأن كيفية سن قوانين خاصة بالقطاع الأمني وتطوير المؤسسات المسيطرة. وانصبت التوصيات المذكورة- التي لم تُطبق بعد- على الأولويات الرئيسية التالية:
1) وضع سياسة أمنية وطنية عامة، 2) توضيح الإطار القانوني الذي ينظم الصلاحيات المؤسساتية وصنع القرار وآليات الإشراف والتقييم لجميع قوات الأمن والسلطات الإدارية ونشر كل مما ذُكر، 3) إلزام الحكومة بإبلاغ الشعب والبرلمان بأي حدث يتطلب تدخل قوات الأمن، و4) وضع آليات رقابة داخلية عادلة وشفافة داخل أجهزة القوات الأمنية [24].
اكتسب المغرب خبرات قيمة خلال هذه العملية يمكن أن تكون دروسًا لدول أخرى تعتزم الدخول في مسلسل المصالحة والعدالة الانتقالية. ونتيجة لذلك، ينبغي النظر إلى إصلاح القطاع الأمني على أنه جزء من العملية الأكبر لإرساء سيادة القانون والتي لا تعد مهمة سهلة لأن الإصلاح الأمني مرتبط ارتباطًا كبيرًا بإصلاحات أخرى في النظام السياسي العام.
ومع ذلك، هناك عقبات كبرى تمنع من المضي قدمًا في تنفيذ جدول أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة، ففي المغرب يواجه الإصلاح الشامل للقطاع الأمني إعاقة بسبب “(…) المصالح الاقتصادية والمالية وفساد المسؤوليين عن قوات الأمن. فقد أشارت منظمة الشفافية الدولية إلى أن العدل والإدارات المحلية هي أكثر القطاعات فسادًا. وبالتالي، فكيف يمكن إرساء سيادة القانون في القطاع الأمني دون إحراز تقدم في مكافحة الفساد داخل القطاع القضائي؟ فعند مكافحة الفساد، فإن مجرد التغيير في المناخ العام يمكن أن يسمح بمعالجة الفساد داخل القطاع الأمني [254].
وبالإضافة إلى ذلك، فإن إصلاح هذا القطاع محدود نظرًا لطبيعة النظام السياسي [26]، حيث تظل السيطرة الفعلية على السلطة التنفيذية للدولة من الأصول السيادية المرتكزة في يد الملك والذي يمارس سيطرة فعالة على كل الأجهزة الأمنية [27]. فقد أوضح كودماني أن “للمغرب مفهوم ملكي للأمن وهو أن السبب الأساسي لوجود القطاع الأمني هو حماية المؤسسة الملكية” [28]. إن الاختصاصات الملكية واسعة النطاق، ففي حين أن النظام في المغرب نظام ملكي دستوري به برلمان منتخب فإن الملك يتمتع بسلطات تنفيذية وتشريعية كبرى كما يتسم الإطار الدستوري للعلاقات المدنية العسكرية أساسًا بالهيمنة الملكية [29].
ولهذا السبب، يبدو أنه من الضروري تعديل الدستور من أجل التوزيع الديمقراطي للاختصاصات والسلطات، فالقطاع الأمني في المغرب لا يعد ضمن السياسات العامة التي تعكس عملية صنع قرار واضحة وتحليلًا للقرارات الحكومية لأن رئيس الحكومة لا يملك سيطرة فعلية على القوات المسلحة أو على أجهزة المخابرات، فبعد فشل الانقلاب العسكري ضد الملك الحسن الثاني في 1971 وفي 1972، فُككت وزارة الدفاع واستُبدلت بإدارة دفاع ذات مشاركة محدودة في صنع القرار [30]. وبالإضافة إلى ذلك، فإن البرلمان لا يمارس أي رقابة تُذكر على الأجهزة الأمنية وخاصة أجهزة المخابرات والقوات المسلحة، فبالرغم من أنه ومن الناحية النظرية فإن من سلطة البرلمان الموافقة على الميزانية العسكرية لكن مناقشة خذه الميزانية دائما تحصل تنتهي بالموافقة بالإجماع عليها في أماكن المداولات العامة الحقيقية. وفي العموم، فإن سلطات البرلمان والحكومة في هذا المجال محدودة للغاية [31].
ومع ذلك، فإن للمجتمع المدني- لاسيما الصحافة ومنظمات حقوق الإنسان والجمعية المغربية لمكافحة الفساد- دور رئيسي في النقاش العام حول القضايا الأمنية وكذا في الانتقاد الشديد للانتهاكات الحقوقية والمطالبة بوضع قوانين وقواعد في هذا القطاع، فعلى سبيل المثال، فقد كان المجتمع المدني هو الممثل الرئيسي في النقاش القانوني والسياسي الذي أثاره مشروع الحصانة العسكرية 12-01 والذي صادقت عليه اللجنة البرلمانية بتاريخ 18 يوليوز/ تموز 2012 وخاصة فيما يتعلق بالمادة 7 من المسودة الأصلية والتي منحت للعسكريين حصانة كاملة في أثناء العمليات العسكرية [32].
وأخيرًا، فإن نزاع الصحراء يضع ضغوطًا إضافية على إصلاح القطاع الأمني في المغرب لأن القوات الأمنية متهمة بانتهاكات حقوق الإنسان في هذه المنطقة. يرفض المغرب رفضًا تامًا إدراج آلية لمراقبة حقوق الإنسان ضمن تفويض بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء (المينورسو) بالرغم من أن إصلاح القطاع الأمني يبدو كمكون أساسي في عملية تسوية النزاع المستمر لسببين رئيسيين:
- أولًا، سيؤدي إصلاح القطاع الأمني للحد من إساءة استخدام الأجهزة الأمنية للسلطة إلى تحسين صورة المغرب ومكانته فيما يتعلق بحقوق الإنسان
- ثانيًا، سيوفر إصلاح القطاع الأمني المصداقية والشرعية للعرض المغربي للحكم الذاتي لمنطقة الصحراء داخل حدود الدولة المغربية في عام 2007 كحل محتمل للصراع. من الواضح أن فكرة الحكم الذاتي الإقليمي تمثل جزءًا من ممارسات حل الصراع لكنها يمكن أن تكون ذات أثر فعلي وتظهر في الأرجاء في إطار نظام ديمقراطي فقط. وبالتالي، سيكون لإصلاح القطاع الأمني تأثير إيجابي على الاقتراح المغربي وسيدعم قابليته للنجاح.
تونس: أهمية محدودة للإصلاح العسكري
هناك ميزتان مختلفتان لتونس على عكس البلدان المغاربية الأخرى، فقد كان للإصلاح العسكري أهمية محدودة على المدى القصير لكن التحدي الرئيسي لإصلاح القطاع الأمني منذ سقوط بن علي هو استعادة الجهاز الأمني الداخلي والقضاء.
يحظى الجيش في تونس بتقدير كبير في المجتمع بل وقد اكتسب المزيد من احترام الشعب له بعد عام 2011 بسبب دور الجيش في الانتفاضة الشعبية والذي ساعد بشكل كبير في إنجاح الثورة التي عقد الشعب العزم خلالها على استبعاد الرئيس السابق من السلطة [33]. لم يتدخل الجيش التونسي في الثورة بل ورفض أوامر بن علي بفتح النار على المتظاهرين وكبحهم. وأثبت الجيش التونسي حينها أنه مؤسسة مهنية تمتنع عن التدخل في السياسة.
وعلى عكس بعض البلدان المغاربية ، ولاسيما الجزائر والمغرب، لم يكن الجيش التونسي أساس السلطة للنظام الاستبدادي [34] فقد همّش كل من الرئيسين بورقيبة وبن علي الجيش وهما الرئيسان اللذان عرفا تونس منذ استقلالها في عام 1956 وحتى الثورة التي اندلعت في عام 2011. يوضح ديريك لوتربيك أن “الضباط العسكريين التونسيين الذين خدموا في عهد بن علي اعتادوا على وصفه بأنه مناوئ لعسكرة الدولة حاول الحد من النفوذ السياسي للجيش قدر المستطاع. وبينما تولى الجيش التونسي دورًا أكثر بروزًا إلى حد ما في السنوات الأولى من حكم بن علي عما كان عليه في عهد بورقيبه وتمت ترقية العديد من الضباط العسكريين إلى مناصب رفيعة المستوى، فمنذ نهاية الثمانينيات من القرن العشرين اتسم التطور الشامل للقوات المسلحة بعدم تسييسها وفصلها عن مركز السلطة السياسية” [35].
يتجلى تهميش الجيش التونسي في حجمه فهو يتكون من حوالي 36.000 ضابطًا ومجندًا وهو بذلك أصغر جيش في البلدان المغاربية، لكن هذا الحجم يكفي لتلبية الاحتياجات الأمنية التونسية نظرًا لأن الدولة غير معرضة لتهديدات من جيرانها ولأن القوة العسكرية مرتبطة بالأحرى بالأنظمة العسكرية الفعالة وذات الكفاءة في مجالات التعليم والتدريب واالمعدات [36]. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التهميش ينعكس أيضًا في ميزانية الدفاع والتي لا تتجاوز 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وبسبب نقص الموارد، كانت المشتريات التونسية متواضعة للغاية لأنها كانت تعتمد على المساعدة العسكرية الأجنبية وخاصة من الولايات المتحدة وفرنسا [37].
وختامًا، فقد كان هذا التهميش جزءًا من استراتيجية بن علي لمنع الانقلاب ضده لضمان عدم تدخل الجيش لإطاحته من السلطة بانقلاب عسكري. ولذلك، فإن الانتفاضة المناهضة للنظام والتي اندلعت في ديسمبر 2010 أتاحت فرصة لقوات الأمن للسعي للانتقام تجنبًا لمثل ذلك التهميش في المستقبل ولإظهار أهمية دور الجيش في الحفاظ على الاستقرار وحماية مؤسسات الدولة. واكتسب الجيش التونسي صورة إيجابية في المجتمع كقوة محترفة وجمهورية مهمتها الأساسية هي الدفاع عن البلاد.
ومما ذُكر نستنتج بأنه لا يُنظر إلى الإصلاح العسكري على أنه من الاهتمامات الملحة في مرحلة ما بعد بن علي بل على العكس من ذلك ينصب التركيز الأكبر على مفهوم إصلاح الشرطة داخل الجمهور، فقد كان النظام القديم شديد القمع وبالتالي اعتمد اعتمادًا كبيرًا على جهاز الأمن الداخلي، وعليه ففي أثناء الانتفاضة الشعبية اتخذت الشرطة جانب النظام ضد المتظاهرين، على عكس الجيش، واتُهمت بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وكانت تونس واحدة من أكثر الدول التي تخضع لسيطرة كبيرة من الشرطة في العالم [38]. “في بلد يبلغ عدد سكانه 11 مليون نسمة، كان في تونس حوالي 200 ألف شرطي وكان القمع برنامجا حقيقيا لخلق فرص العمل” [39]، وفي الوقت نفسه كانت أجهزة المخابرات من بين النخبة الأمنية المتميزة كنظام وصي تتوافق مصالحه مع مصالح الشرطة.
وفي هذا الصدد، يجب أن يركز إصلاح جهاز الأمن الداخلي للبلاد على مستويات ثلاث:
- سن تشريعات جديدة تقوم على القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان لإلغاء الأنظمة القمعية للنظام السابق.
- تنفيذ آليات الحكامة الرشيدة على مستوى الإدارة لاسيما شفافية قوات الشرطة ومسائلتها.
- الترويج لثقافة أمنية جديدة تقوم على سيادة القانون والتعليم الديمقراطي حيث سيساعد ذلك على تطهير الأجهزة الأمنية من الداخل ودفع العناصر المواتية للنظام القديم والتي تحاول عرقلة النظام لتغيير سلوكها.
يجب أن تسير كل هذه العوامل جنبًا إلى جنب مع إصلاح المنظومة القضائية والتحول الهيكلي لوزارة الداخلية التي تسيطر على غالبية الأجهزة الأمنية التونسية، فهذه الوزارة في واقع الأمر هي أساس الصرح الأمني بأكمله في البلاد ويظهر تحولها على أساس ديمقراطية وآليات خاضعة للمساءلة تحديًا حاسمًا أمام إصلاح القطاع الأمني.
تمتلك تونس بعض الأصول اللازمة لإنجاح القطاع الأمني مثل تجانس الشعب ووجود طبقة وسطى متعلمة والتكامل الاقتصادي في نظام السوق الحرة ووجود مؤسسات سياسية منتخبة جديدة (الرئيس والبرلمان والحكومة). وهذه الأصول تساهم بقوة في استقرار الدولة وتوفر، مجتمعة، شرطًا مسبقًا مهمًا للتحول الديمقراطي السلمي والسلس في البلاد [40].
الحالة الليبية: التحديات التي تواجه إصلاح القطاع الأمني في مرحلة ما بعد الصراع في ليبيا
تختلف الحالة الليبية اختلافًا تامًا عن البلدان المغاربية الأخرى نظرًا لاستمرارية الحرب الأهلية، فبحسب بول جاكسون هناك ثلاث خصائص رئيسية يجب توافرها: “ضرورة توفير الأمن الفوري وضرورة تسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم وضرورة تقليص الجهات الأمنية”[41]، وكل هذه الشروط مستوفاة بوضوح في القضية الليبية.
لا تحتكر الحكومة الليبية الاستخدام المشروع للقوة وهو أساس سيادة الدولة، فالحكومة لا تمتلك السيطرة الكاملة على أراضيها وهي مضطرة لتقاسم السلطة الأمنية مع قوات المتمردين. ترفض بعض الجماعات الثورية الالتحاق بالجيش الوطني أو تسليم أسلحتها. ففي أثناء التمرد ضد نظام القذافي، لم يتوحد المتمردون تحت راية واحدة مطلقًا، وعند انتهاء الحرب استمر البعض في احتلال مدنهم أو مناطقهم الخاصة وبالتالي فهم لا يدينون بالولاء للسلطة السياسية الجديدة في طرابلس، بل والأسوأ من ذلك أن الميليشيات تواصل نموها في مختلف أنحاء البلاد وتتابع تنفيذ أجنداتها الخاصة. ولهذا السبب، فإن ليبيا تبرز بين البلدان المغاربية كاستثناء نظرًا للحاجة إلى إعادة بناء القطاع الأمني الليبي من البداية.
تتطلب الحاجة المذكورة إلى الأمن الفوري استراتيجية قوية لنزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم. ويمكن دمج المقاتلين السابقين في الجيش الوطني وقوات الشرطة في نهاية المطاف تحت حكم الحكومة المركزية وبالتالي تصبح تابعة للشعب. إن نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج شرط مسبق حاسم لأي نجاح في إصلاح القطاع الأمني في ليبيا لمنع المزيد من تدهور الأمن الداخلي وتجنب تجدد الصراع وحماية البنية التحتية للطاقة وخلق ظروف مواتية للإصلاح، ومن بين المؤشرات على ما ذُكر فإن هناك ما يصل إلى 20.000 نظام دفاع جوي محمول [42] منتشر في جمع أنحاء البلاد منذ اندلاع الثورة وسيكون تأمين هذه الأسلحة صعبًا نظرًا لعدم وجود جهاز أمني ليبي متماسك.
ومع ذلك، هناك العديد من العوامل تعوق استراتيجية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج من بينها الافتقار إلى الخبرة التاريخية في بلد حكمه معمر القذافي لمدة 42 عامًا دون هيكلة للدولة [43] بالإضافة إلى الطبيعة المتداعية للأجهزة الأمنية الموروثة من النظام الجديد والتفتت الاجتماعي للمجتمع الليبي والذي يمكن رؤيته بأشكال مختلفة لاسيما التنافسات القبلية والإقليمية. وفي مثل هذه البيئة، تواجه السلطة المركزية الوطنية تحديًا حاسمًا لتأكيد سلطتها على كل القبائل والمناطق الإقليمية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التعامل مع كل من جرائم النظام السابق والمتمردين يمثل أمرًا صعبًا فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية والتي لا تمثل جزءًا من إصلاح القطاع الأمني في حد ذاتها لكنها ترتبط به ارتباطًا معقدًا [44]. في الواقع، كل هذه العوامل تفسر الأداء الضعيف للحكومة الجديدة فيما يتعلق بإصدار القوانين بهدف تنظيم هذه الفترة الانتقالية وضمان احترام معايير السلوك الوطنية على مستوى الحكامة المركزية وتطبيق كل القطاعات المحلية للقوى الأمنية لها.
يتجه إصلاح القطاع الأمني في ليبيا نحو السلام المستدام مع بناء قدرات كبرى في قطاعات الدفاع والشرطة والمخابرات. وفيما يتعلق بالدفاع الوطني، فإن ليبيا غير معرضة لأي تهديد خارجي من جيرانها. وبالتالي فإنها ليست بحاجة إلى قوة كبرى للدفاع الإقليمي، ومع ذلك فإن إنشاء جيش وطني موحد تحت سيطرة مدنية مركزية شرط أساسي لتعزيز قوة الدولة الليبية، وتعتبر الطريقة المناسبة لتحقيق هذا الهدف هي “توفير مزيج من الحوافز وعقد مفاوضات واسعة النطاق بين طرابلس وقادة الميليشيات وعدم استخدام القوة إلا في الحالات القصوى فقط” [45].
وأما الجانب الرئيسي الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المستدامة فهو إصلاح الشرطة لأن الشرطة الليبية في حاجة ماسة إلى تحسين مستوى الشفافية وإلى التدريب والحصول على معدات جديدة. إضافة إلى ذلك، تتعلق الكثير من القضايا بمنح جميع أفراد المجتمع الليبي إمكانية الوصول إلى قوات الشرطة لتحقيق التنوع القبلي والعرقي والثقافي لجميع المناطق الليبية التي تخدمها الشرطة، ويتطلب ذلك أن تعزز قوات الشرطة مستوى احترافها لأن بعض الجماعات الثورية السابقة انضمت إلى الجيش الجديد والشرطة الجديدة وبالتالي فمن المرجح أن تحتفظ هذه الجماعات بولائها لقاداتها ومجتمعاتها المحلية. ومع ذلك، يجب عدم نسيان إصلاح أجهزة المخابرات لأن الهياكل الاستخبارية الموروثة من نظام القذافي مثل منظمة الأمن الخارجي الليبي بحاجة إلى إصلاح شامل نحو السيطرة المدنية الديمقراطية الفعالة وإنفاذ حقوق الإنسان.
الخاتمة
بالرغم من اختلاف التجارب والسياقات في البلدان المغاربية يمكن الخروج من هذه الدراسة حول إصلاح القطاع الأمني في هذه الدول بثلاثة دروس عامة. يوضح الدرس الأول أن إصلاح القطاع الأمني ضروري للترويج للصورة الجديدة للأجهزة الأمنية والتي تختلف عن الصورة المرسومة لها سابقا والمتمثلة في كبح الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وذلك من أجل تأكيد التحول من النظام القديم إلى النظام الجديد.
وأما الدرس الثاني فهو أن إصلاح القطاع الأمني في البلدان المغاربية سيواجه التحديات التالية لا محالة:
- تحول الثقافة الموروثة من الأنظمة الاستبدادية
- مسألة مقاومة الإصلاح لأن النخب الأمنية في الأنظمة القديمة لا تؤمن بفوائد الإصلاح وما زالت تعتبر المجال الأمني مجالًا محظورًا
- قضية التسييس أي فصل الأجهزة الأمنية عن الحياة السياسية لإخضاعها للسلطة المدنية
أما الدرس المستفاد الثالث فيتعلق بعدم التجانس بين البلدان المغاربية من حيث الثقافة والسياق وظروف تنفيذ إصلاح القطاع الأمني. فبالرغم من بعض أوجه التشابه إلا أن هذه البلدان تختلف اختلافًا كبيرًا في أولولياتها واحتياجاتها لإصلاح القطاع الأمني. ولذلك، فإن طريقة هذا الإصلاح يجب أن تتوافق مع ظروف كل دولة مع مراعاة التجارب الإقليمية والدولية.
الهوامش
[1]Michael Brzoska, Security sector reform in development donor perspective: origins, theory and practice, Geneva Center for the Democratic Control of the Armed Forces (DCAF), Occasional Paper 4, Geneva, 2003, p. 13-14.
Heiner Hänggi, “Conceptualising Security Sector Reform and Reconstruction”, in: Alan Bryden and Heiner Hänggi, Reform and Reconstruction of theSecurity Sector, DCAF,Geneva, 2004, pp. 3-20.
[3] Ibid.
[4]Nicole Ball, «The Evolution of the Security Sector Reform Agenda», in Mark Sedra (eds.), The future of the security sector reform, CIGI, 2010, p.30
[5] OECD, Security System Reform and Governance; DAC Guidelines and Reference Series; 2005; http://www.oecd.org/dac/incaf/31785288.pdf
[6]Arnold Luethold, “Security Sector Reform in the Arab Middle East: A Nascent Debate”, in: Alan Bryden and Heiner Hänggi, Alan Bryden and Heiner Hänggi, Reform and Reconstruction of theSecurity Sector, DCAF,Geneva, 2004, pp. 93-120.
[7] Donald J. Planty, Security Sector Transformation in the Arab Awakening, USIP Special Reports 317,September 2012, p.2
[8]See, The Arab Reform Initiative, Workshop on reform of the police in Egypt: Issues and challenges, July 2012, p.2 ; http://www.arab-reform.net/workshop-reform-police-egypt-issues-and-challenges
[9] J.-F. Daguzan, Le Dernier rempart ? Forces armées et politiques de défense au Maghreb, Paris, éditions Publisud, 1998, pp. 21-49.
[10] Between independence in 1962 until popular revolution of 1988, Algeria was ruled by FLN as one-party state. But, this party was acted on the basis of the Algerian army’s identity and ideology. See Hugh Roberts, Demilitarizing Algeria, Carnegie Paper, N. 86, May 2007, p.5.
[11]Entelis, John P. ‘Algeria: Technocratic Rule, Military Power’. Political Elites in Arab North Africa: Morocco, Algeria, Tunisia, Libya and Egypt, ed. William I. Zartman, Mark A. Tessler and John P. Entelis, London: Longman, 1982, p. 92–143.
[12] A. Guney& A. Çelenk, «The European Union’s Democracy Promotion Policies in Algeria: Success or Failure?», The Journal of North African Studies, Vol. 12, No. 1, March 2007, P. 110.
[13] François Gèze, « Armée et nation en Algérie : l’irrémédiable divorce ? », Hérodote, vol. 1, n. 116, 2005, pp. 175-203
[14] The Chadli period is significant for its political and economic liberalization process, namely the multiparty political system. (Entelis and Arone, 1994, p. 184).
[15]Lahouari Addi, «Army, State and Nation in Algeria», In Kees Kooning and Dirk Kruijt, Political Armies. The Military and Nation Building in the Age of Democracy, Zed books, New-York, February 2001, p. 162.
[16] Ayşe AslıhanÇelenk, «Promoting democracy in Algeria: the EU factor and the preferences of the political elite», Democratization, Vol. 16, No. 1, February 2009, p. 181.
[17] Mustapha Mohamed, « State, Security and Reform: The Case of Algeria», ARI Projects, June 2012, 8p.
[18]AddiLahouari, «Algeria’s Army, Algeria’s Agony», Foreign Affairs, Vol. 77, No. 4, July-August 1998, p.53.
[19]Virginie Collombier, « The Military and the Constitution: The Cases of Algeria, Pakistan and Turkey» , ARI Project, June 2012, p.1
[20]Mustapha Mohamed, Op.cit., p.1.
[21] Abdalla Saaf, «Democratic Governance of Security in Morocco», ARI Projects, August 2012, p.2.
[22] Samuel Huntington, The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century, Norman: University of Oklahoma Press, 1991.
[23] IER, ‘2005 Closing Report (Rapport Final)’, available at www.ier.ma ; the statute of the IER was published by Royal Dahir on 12 April 2004.
[24] DCAF, Security Sector Reform: in Light of the Recommendations of Morocco’s Equity and Reconciliation Commission, 2009, http://www.dcaf.ch/Publications/Security-Sector-Reform-in-Light-of-the-Recommendations-of-Morocco-s-Equity-and-Reconciliation-Commission
[25]Bassma Kodmani, «The Security Sector in Morocco and the Broader Reform Agenda», ARI Reports,March 2009, p. 9; http://www.arab-reform.net/sites/default/files/ARI_SS~1.PDF
[26]Hanspeter Mattes, «Morocco: Reforms in the Security Sector But No ‘SSR’», inHans Born and Albrecht Schnabel (eds.), Security Sector Reform in Challenging Environments, Zürich: Lit Verl. 2009, pp. 157-160.
[27] Brahim Saidy, «Relations civilo-militaires au Maroc : le facteur international revisité», Politique étrangère, n°3, automne 2007, pp. 589-603.
[28]Bassma Kodmani, op.cit., p.2.
[29]See, Brahim Saidy, « La structure constitutionnelle des relations civilo-militaires au Maroc », in Centre d’études internationales (sous la dir.), La constitution marocaine de 2011 : analyses et commentaires, Paris, L.G.D.J, 2012, pp. 139-170.
[30] Brahim Saidy, «Relations civilo-militaires au Maroc : le facteur international revisité», op.cit., p.597
[31] Ibid., pp. 599-600
[32] Article 7 of the proposed act stated that « Military personnel in the Royal Armed Forces (FAR) who carry out orders received from their superiors in the chain of command in the framework of a military operation conducted at home in their mission shall not be questioned criminally and shall enjoy the protection of the state from exposure to threats, prosecution, attacks, abuse, slander or insult in the practice or performance of their duties or thereafter». This article was amended to clarify that the military personnel enjoy the protection of the state, but they have not immunity from criminal accountability.
[33]Sharan Grewal, “A Quiet Revolution: The Tunisian Military After Ben Ali,” Carnegie Endowment, 24 February 2016, available at https://carnegieendowment.org/2016/02/24/quiet-revolution-tunisian-military-after-ben-ali-pub-62780.
[34] L. B. Ware, ‘The Role of the Tunisian Military in the Post-Bourgiba Era’, Middle East Journal, vol. 39, no. 1, 1985, p.37; L. B. Ware, Tunisia in the Post-Bourgiba Era. The Role ofthe Military in a Civil Arab Republic, Maxwell: AL: Air University Press, 1986, p. 47.
[35] Derek Lutterbeck, «After the Fall: Security Sector Reform in post-Ben Ali Tunisia», ARI Projects, September 2012 p.6.
[36]Brahim Saidy, «The Role of Military in Tunisian Democratic Transition», Al Jazeera Centre for Studies, Qatar, March 2011, 7p.
[37] See, Tunisia: Foreign Military Assistance, http://www.globalsecurity.org/military/world/tunisia/assistance.htm
[38] Over the years, Ben ‘Ali has dramatically expanded Tunisia’s internal security apparatus.
[39]Eric Goldstein, «Dismantling the Machinery of Oppression », The Wall Street Journal, February 17, 2011.
[40]Querine Hanlon, «Security Sector Reform in Tunisia. A Year after the Jasmine Revolution», Special Report, N. 304 March 2012, 16p.
[41]Paul Jackson, «SSR and Post-Conflict Reconstruction: The Armed Wing of State Building?», in Mark Sedra (eds.), The future of the security sector reform, op.cit., pp. 119-120.
[42]Matt Schroeder, “Missing Missiles The Proliferation of Man-portable Air Defence Systems in North Africa”, Small Arms Survey Issue Briefs, November 2, June 2015, p.4.
[43] Moussa Grifa, «The Libyan Revolution : Establishing a New Political System and The Transition to Statehood»,ARI Projects, September 2012 p.1.
[44] Alan Bryden & Heiner Hänggi, ‘Reforming and Reconstructing the Security Sector’, in Security Governance and Post-Conflict Peace building, (Munster; LIT, 2005), 34-35.
[45] Christopher S. Chivvis, Keith Crane, Peter Mandaville and Jeffrey Martini, Libya’s Post-Qaddafi Transition. The Nation-Building Challenge, RAND Corporation, 2012, p.1.
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]
إبراهيم اسعيدي
أستاذ الدبلوماسية والدراسات الأمنية والدفاعية بجامعة قطر. حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة مونتريال وعلى الماجستير في نفس التخصص من جامعة لافال بكندا. حاصل ماجستير الدراسات المعمقة في الدراسات الاستراتيجية والسياسة الدفاعية من الكلية العليا للدراسات الدولية بباريس. اشتغل سابقا أستاذا للعلاقات الدولية بجامعة لافال وجامعة أوتاوا بكندا، واشتغل باحثا مقيما بالكلية العسكرية للحلف الأطلسي بروما، وباحثا زائرا بمعهد أبحاث السياسة الخارجية بفيلاديلفيا بأمريكا، وباحثا زائرا بمعهد الأبحاث في الشؤون العسكرية بسيول بكوريا الجنوبية، وباحثا مقيما بالمعهد الكيبيكي للدراسات الدولية بكندا. كما تعاون كأستاذ منتدب مع كلية أحمد بن محمد العسكرية وكلية جوعان بن جاسم للقيادة والأركان بالدوحة. أصدر 6 كتب من بينها 3 كتب حول الحلف الأطلسي وكتاب حو القيادة العسكرية الخليجية الموحدة. أصدر ما يفوق 30 مقالا علميا محكّما في السياسة الدفاعية والاستراتيجية العسكرية والامن القومي في مجلات علمية متخصّصة، كان اخرها " الجيش والملكية في المغرب". سيصدر له قريبا "السياسة الدفاعية القطرية: آثار الحصار".