الأبحاثالسياسات الدينيةالسياسة الخارجيةتصدير “الأمن الروحي” كآلية إستراتيجية لدعم التمدد المغربي في إفريقيا

عبر تصدير نموذج التدين المعتدل يسعى المغرب إلى تعميق نفوذه السياسي بإفريقيا، ولكنه يواجه منافسة مع المرجعيات الدينية الأخرى.
سليم حميمنات سليم حميمنات25/11/2024516112 min

[vc_row][vc_column][vc_column_text]

عبر تصدير نموذج التدين المعتدل يسعى المغرب إلى تعميق نفوذه السياسي بإفريقيا، ولكنه يواجه منافسة مع المرجعيات الدينية الأخرى

 

تحميل المقال
الملخص تنفيذي

في إطار مقاربة ناعمة للتوغل في إفريقيا، طوّر المغرب خلال السنوات العشر الأخيرةإستراتيجية جديدة لتصدير تجربته في مجال “الأمن الروحي” إلى عدد من البلدان الإفريقية. تندرج هذه الإستراتيجية الدينية الإقليمية في إطار رؤية طموحة تستهدف تعميق النفوذ السياسي والاقتصادي للمملكة بالقارة السمراء، وتتجسد ملامحها في العديد من المبادرات الرامية إلى توثيق التعاون المغربي-الإفريقي في المجال الديني. بيد أن هناك تحديات تعترض هذه الإستراتيجية، لاسيما المنافسة من بعض المرجعيات الدينية المرتبطة ببعض الدول من شمال إفريقيا والخليج والتي أضحت، بفضل الإمكانات المادية الضخمة والشبكات النافذة التي تسخرها، تنازع جديا الحضور الروحي التاريخي للمغرب داخل عدد من دول إفريقيا الغربية.

 

مقدمة

في يوليوز 2015 أحدث المغرب مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، بهدف “توحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين في المغرب وباقي الدول الإفريقية للتعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها”[1]. قد يظهر للوهلة الأولى أن الهدف الرئيسي من وراء خلق هذه المؤسسة هو تنسيق عمل العلماء الأفارقة بهدف مواجهة التحديات الأمنية المرتبطة بالتطرف والإرهاب، ولكن النظرة المعمقة تكشف أن هذه المبادرة هي فقط أداة ضمن أدوات أخرى لسياسة دينية مهيكلة، ذات طموحات إقليمية وجيو-إستراتيجية أوسع، وهي تأتي أساسا لمواكبة السياسة الإفريقية الجديدة للمغرب والرامية إلى تعزيز مناطق نفوذه السياسي والاقتصادي في القارة وتوسيعها إلى ما وراء محور الرباط-دكار الذي ظل، لعقود عديدة، محددا رئيسيا لمجال السياسة الإفريقية للمملكة.

يندرج لجوء المغرب إلى تصدير تجربته في مجال “الأمن الروحي” إلى إفريقيا ضمن رؤية إستراتيجيةمتعددة الأبعاد تروم تطوير علاقات التعاون الثنائي مع دول القارة؛ والإسهام في جهود مكافحة التطرف وتعزيز السلم في منطقة الساحل جنوب الصحراء ومن ثمة تكريس الحضور الإقليمي للمملكة على الصعيد الدولي. لكن هذه السياسة الطموحة تواجه تحديات متنوعة قد تحد من فعاليتها وبلوغ الأهداف والغايات المرسومة لها.

 

استراتيجية دينية جديدة نحو إفريقيا؟

ينبغي التأكيد بداية على أن الإستراتيجية الدينية الجديدة الموجهة نحو إفريقيا هي ليست وليدة اليوم، بل لها بوادر وامتدادات في السياسة الدينية السابقة، وتحديدا تلك التي تمت بلورتها منذ منتصف الثمانينات، كنوع من الديبلوماسية البديلة أو الموازية، لكسر عزلة المغرب على المستوى القاري وإنعاش القنوات السياسية والديبلوماسية المنسدة بعد انسحاب المملكة من منظمة الإتحاد الإفريقي سنة 1984[2]. وفي هذا الصدد، يمكن أن نستحضر “ندوة الطرق الصوفية” التي نظمتها وزارة الأوقاف بفاس وإنشاء “رابطة علماء المغرب والسينغال” سنة 1986.

التحول الجوهري الذي حصل هو الانتقال تدريجيا من “ديبلوماسية روحية” ترتكز أساسا على الطرق الصوفية كقناة لإنعاش الإشعاع الروحي للمغرب بإفريقيا، إلى اعتماد سياسة دينية مهيكلة عابرة-للحدود الوطنية، تقوم على رؤية جديدة تعكس حصول تطور جوهري من حيث كثافة العمل الديني وتنويع أدوات اشتغاله والفاعلين المتدخلين فيه وإعادة رسم مجالات تدخله وطريقة توظيفه.

 

عمل ديني مكثف ومهيكل

فمن جهة، انتقل المغرب تدريجيا من عمل ديني مناسباتي ذو نزعة دفاعية، محكوم أساسا برد الفعل، إلى إستراتيجية دينية هجومية، براغماتية وذات نفس طويل، تسعى إلى توظيف الإرث الروحي المغربي-الإفريقي المشترك، كمعطى داعم لمسعى بناء شراكات إستراتيجية حيوية وطويلة الأمد مع عدد من بلدان القارة. هناك مؤشرين يعكسان هذه النقلة: أولا، الدينامية النشيطة لمؤسسة إمارة المؤمنين على الساحة الإفريقية كما تشير إلى ذلك الزيارات الملكية المتكررة التي قام بها الملك محمد السادس لإفريقيا، والتي فاقت خمسين زيارة وشملت 29 دولة مع منتصف سنة 2017[3]. فبغض النظر عن الصبغة البراجماتية ورغبة المغرب في تمتين الروابط السياسية والاقتصادية التي تحكّمت في أجندة تلك الزيارات، كان لافتا حرص العاهل المغربي على تضمين هذه الزيارات عددا من الأنشطة والمبادرات ذات طابع ديني رمزي، مثل أداء الملك لصلاة الجمعة بعواصم عدد من البلدان الإفريقية[4].فمن أصل 70 صلاة جمعة أعلن عنها ضمن قائمة الأنشطة الملكية الرسمية ما بين سنتي 2014 و2016، تم إحصاء حوالي 13 منها بدول إفريقية كالسنغال ومالي والغابون ونيجيريا.

فضلا عن التغطية الإعلامية الواسعة التي حضي بها هذا النشاط الديني، دأب الملك المغربي بالمناسبة على إهداء الجهات المكلفة بتدبير الشؤون الدينية لتلك الدول آلاف النسخ من المصحف الشريف -في طبعته الصادرة عن “مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف”قصد توزيعها على المساجد هناك. كما حرص الملك خلال جولته الإفريقية سنتي 2013 و2014 على اللقاء بمجموعة من الزعماء الدينيين وشيوخ الطرق الصوفية ذات الحضور النافذ بتلك الدول، لاسيما في السنغال وساحل العاج والغابون، حيث استقبل الملك شيوخ والزعماء الروحيون لجميع العائلات التيجانية (العمرية بدكار، ونياس بكولك) وممثلي الطرق الصوفية الأخرى، خصوصا القادرية والمريدية ولايان[5].

بالإضافة إلى ذلك شهد التعاون المغربي-الإفريقي في الشأن الديني، تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة على المستويين الكمي والنوعي. باستقراء التطور الكرونولوجي لعدد الاتفاقيات وبروتوكولات التعاون التي وقعتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية مع نظيرتها بالبلدان الإفريقية الأخرى، يلاحظ أنه خلال الفترة بين سنتي 1975 و1999 لم يتجاوز عدد الاتفاقيات المبرمة في المجال الديني خمس اتفاقيات، وانتقلت بين سنتي 2000 و2011 إلى 18 اتفاقية، بينما شهد التعاون المغربي-الإفريقي منذ سنة 2012 نقلة نوعية، إذ في ظرف 5 سنوات فقط تضاعف العدد إلى حوالي 36 اتفاقية.

فضلا عن هذا التطور الكمي، أضحت الإستراتجية المعتمدة حاليا أكثر دينامية وعقلنة من خلال اشتغالها بأدوات عملية وإطارات مؤسساتية مهيكلة، مثل برنامج تكوين الأئمة الأفارقة[6]،تّقننها مقتضيات قانونية واتفاقيات ثنائية تحدّد بنود هذا التعاون وتفصّل في كيفية أجرأته.

 

المصدر: الرسم البياني من إنجاز الباحث بناء على معطيات صادرة عن وزارة الأوقاف.

 

فاعلون جدد

من جهة أخرى، اجتهدت هذه السياسة في تنويع مداخل اشتغالها وتعبئة فاعلين حكوميين وغير حكوميين جدد لتطعيمها وإسنادها “من تحت”. معنى ذلك أن هذه السياسة لم تعد تعتمد حصرا على شبكات الإسلام الصوفي ذات الحضور والنفوذ القوي بعدد من بلدان غرب إفريقيا -القادرية والتيجانية خصوصا، أو تشتغل فقط من خلال أدوات التعاون الديني الحكومي والمؤسساتي، مثل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، بل تعزّزت هذه السياسة بدخول فاعلين ووسطاء جدد داعمين لها، من قبيل منتدى الوسطية بإفريقيا ورابطة علماء المغرب العربي، كهيئتين تضمّان ضمن مكوناتها انخراطا قويا ونافذا لفاعلين إسلاميين وسلفيين مغاربة.

 فمنتدى الوسطية بإفريقيا الذي أعلن عن إنشاءه بالعاصمة الموريتانية نواكشوط في 23 مارس 2010، يضم عددا من الجمعيات والهيئات الدعوية من مشارب مختلفة، شعبية ورسمية، وإن كان التيار الحركي الإسلامي هو الأكثر حضورا وهيمنة مثل حركة التوحيد والإصلاح المغربية ومجتمع حركة السلم الجزائرية وجماعة عباد الرحمان السنغالية.تعبر هذه المبادرة عن انشغال حركة التوحيد والإصلاح “بنفس الهموم والأولويات التي تنشغل بها الدولة مع اختلاف الموقع والأدوات”، كما تجسد رغبتها في “ترسيخ البعد التكاملي بين عمل الدولة وبين العمل المدني الأهلي في مواجهة التحديات الأمنية الصادرة من دول الساحل جنوب الصحراء… ومساعدة الدولة في تحقيق الأهداف التي تصبو إليها واستعادة الإشعاع المغربي في المنطقة”[7].

 

توظيف براغماتي

حدث كذلك تطور مهم على مستوى طريقة توظيف هذه السياسة الدينية الموجهة نحو إفريقيا، إذ لم يعد تعزيز الروابط الروحية والدينية المشتركة هو النهج الوحيد الذي تعتمده المملكة لإحداث تقارب مع دول منطقة غرب إفريقيا، كما كان الحال في الثمانينات. فقد شهدت السنوات الأخيرة توجها جديدا يقوم على تكثيف مجالات التعاون الاقتصادي والرفع من مستوى الاستثمارات والتبادل التجاري وتنويع الشراكات الثنائية مع دول إفريقية بصرف النظر عن موقفها الرسمي من قضية الوحدة الترابية للمملكة. معنى ذلك أن التعاون الأمني-الروحي، بالنسبة للمغرب في الوقت الراهن،أضحى مجرد قناة داعمة ومكملة لسياسة براغماتية تقوم على تعزيز التعاون جنوب –جنوب وتنويع الشراكات الإستراتيجية[8]، حول مجالات تنموية حيوية مع دول لا تقع بالضرورة، كما سبقت الإشارة، ضمن المحور التقليدي الرباط-دكار الذي حدّد مجال السياسة الإفريقية للمملكة لعقود.

 

الأهداف والرهانات الإستراتيجية

يراهن المغرب من وراء إستراتيجيته الدينية الجديدة نحو إفريقيا تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية.الهدف الأول هو تجسيد المقاربتين “الوقائية”و”الإستباقية” لحماية الأمن القومي للمملكة.ففي إطار رؤية متسعة تربط الأمن الداخلي للمملكة بمحيطه الإقليمي، سواء على مستوى التهديدات الإرهابية أو على مستوى إستراتيجيات مواجهتها، يسعى المسؤولون المغاربة إلى استثمار المكاسب والنجاحات التي حققتها سياسة “الأمن الروحي” في الداخل والعمل على الاستفادة منها خارجيا، في إطار التعاطي “عن بعد” مع تحديات يمكن أن تشكل تهديدا حقيقيا للمملكة في المستقبل. تركز عناصر هذه السياسة الاستباقية على نهج مقاربة لا متمركزة تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات النسيج العقدي والمذهبي المحلي في إفريقيا، وذلك بالعمل على إعادة إحياء شبكة الإسلام المحلي التقليدي، المبني في جزء كبير منه على التدين الصوفي والمذهب المالكي، وتحصين بنياته في مواجهة الفكر الديني المتطرف.

يقدم المغرب هذه المقاربة الروحية العابرة للحدود كعنصر مكمل للمقاربة الصلبة (العسكرية) التي تنهجها منذ عقود دول المنطقة والقوى العظمى في إحلال الأمن والاستقرار في منطقة الساحل، بما فيها مبادرة تدريب جيوش دول الساحل والصحراء الإفريقية لمكافحة الإرهاب والعملية العسكرية (سيرفال) التي قادتها فرنسا بمالي عام 2013، واللتان أبانتا عن محدوديتهما وضعف نجاعتهما في محاصرة والقضاء على تمدد نشاط الجماعات الجهادية بالمنطقة. برزتهذه المقاربة الناعمة للقضاء على التطرف والإرهاب في منطقة الساحل في خطاب الملك محمد السادس بمناسبة تنصيب الرئيس المالي إبراهيم بوباكار كيتا في شتنبر 2013، حين أفصح الملك المغربي صراحة عن ملامح المقاربة الاحتوائية التي يقترحها المغرب لتحصين مالي ومنطقة الساحل عموما من مخاطر انعدام الاستقرار مستقبلا: “إن أي مبادرة دولية يتم التنسيق بشأنها دون إيلاء البعد الثقافي والعقائدي الأهمية التي يستحقها، سيكون مصيرها الفشل[9].

الهدف الثاني من وراء إطلاق هذه السياسة هو سعي المملكة تجاوز مأزق التعاون المغاربي الذي لا زال يعاني من الشلل ويبدو أنه يخضع لحسابات من غير المحتمل أنها ستتغير على الأقل على المديين القريب والمتوسط. فمستوى التعاون الأمني الجهوي بين دول المغرب الكبير ما زالت محدودة[10]، رغم الجهود المبذولة مثلا على مستوى المؤتمر الإقليمي لأمن الحدود في دول منطقة شمال افريقيا وفضاء الساحل والصحراء، أو الدينامية الجديدة التي يشهدها تجمع دول الساحل والصحراء، المعروف اختصارا بتجمع “سين – صاد”[11]الذي يسعى إلى إيجاد صيغ تعاون أمني بين دول المغرب الكبير ومنطقة الساحل.

والملاحظ أن قصور التعاون بين دول المغارب يشمل المجال الديني أيضا، فالجهود الرسمية في هذا الاتجاه مازالت متعثرة ولا ترقى للطموح للمتوخى، ويقتصر الأمر على مؤتمر وزراء الأوقاف الذي يبدو مفتقدا للفعالية ودون أي أثر يذكر على غرار الهياكل الأخرى للإتحاد المغاربي التي بقيت شكلية منذ تأسيسها. فمنذ إنشاء الإتحاد سنة 1989، لم يجتمع وزراء الشؤون الدينية للدول المغاربية إلا أواخر شتنبر 2012في نواكشوط. وقد تمخض هذا الاجتماع الأول من نوعه عن توصيات في غاية الأهمية تتعهد بإنشاء”مجمع مغاربي للفقه المالكي” و”دار مغاربية للحديث الشريف” وتعزيز التعاون بين مؤسسات التكوين المختصة في مجال الوعظ والإرشاد في دول الاتحاد وإنشاء محطة فضائية إسلامية مغاربية[12]. لكن جلهذه التوصيات بقيت حبرا على ورق.

وأخيرا، توفر هذه الإستراتيجية أداة مرنة وعابرة للحدود بطبيعتها،يعول عليها المغرب لكسر وضعية الإقصاء والتهميش المفروضة عليه من طرف الجزائر التي سعت جاهدة لاحتكار ملف الساحل والتحكم في كل خيوطه. فالجزائر ظلت تعترض بشكل مستمر على إدماج المغرب في أي ترتيبات أو إطارات سياسية أمنية أو عسكرية تهم منطقة الساحل، بذريعة أن المغرب ليس من دول الميدان ولا يتوفر على حدود تماس مع منطقة الساحل. وهو ما ظهر مثلا خلال اجتماع لجنة الأركان العملياتية المشتركة (CEMOC)، المكونة من أربعة بلدان ساحلية (الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر)، في تمنراست في 26 سبتمبر 2010، حين أعربت كل من مالي وبوركينافاسو عن رغبتهما في توسيع نطاق هذا التجمع الإقليمي لمكافحة الإرهاب إلى الدول المجاورة الأخرى، في إشارة ضمنية إلى المغرب، إلا أن الجزائر رفضت بشكل قاطع هذا المقترح[13].بيد أن تفاقم الأزمتين الليبية والمالية منذ عام 2012 شكلتا فرصة سانحة للمغرب لتقديم نفسه كطرف معني له قلق جدي مما يحدث بالمنطقة، مثله مثل البلدان المغاربية والساحل.وبالتالي، من شأن هذه الإستراتيجية الدينية النوعية، ذات البعد الأمني الواضح، أن تساعد المملكة على تعزيز نفوذها الجيوستراتيجي بالمنطقة بما يساعد على البروز كقوة إقليمية صاعدة تملئ الفراغ وتسهم في استعادة الأمن والاستقرار الإقليميين في منطقة ساخنة ومضطربة.

ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن طموح المغرب للزعامة الدينية بإفريقيا أخد يتقاطع مع رهانات وطموحات قوى إقليمية ودولية، تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ودول أخرى من الإتحاد الأوروبيوأصبح يحظى بدعمها وتشجيعها. وقد عبّر عدد من مسؤولي الدول الأوروبية عن رغبتهم في الاعتماد على المملكة كشريك إقليمي لدول المتوسط، وللمجتمع الدولي عموما، قادر بخبرته السياسية ومقاربته الفريدة والتي تركز على المواجهة الإيديولوجية -عن قرب- للفكر المتطرف، على معالجة النقص والخلل في الإستراتيجيات الأمنية والعسكرية المعتمدة. ولعله في هذا الاتجاه يمكن أن نفهم استدعاء المغرب لعرض تجربته أمام لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن الدولي بنيويورك بتاريخ 30 شتنبر2014[14]،والذي يمكن اعتباره اعترافا دوليا بأهمية التجربة المغربية في محاربة التطرف، ودعوة ضمنية بضرورة استلهامها في الجهود الإقليمية والدولية الرامية لاستتباب الأمن والاستقرار في منطقة الساحل وإفريقيا الغربية.

من هذه الزاوية، فالسياسة الروحية الإقليمية التي يرعاها المغرب وإن كانت تستهدف بالدرجة الأولى تحقيق المصالح الخاصة للدولة المغربية وتعزيز نفوذها بإفريقيا، إلا أنها قد تحفز على التعاون أكثر فأكثر في المجال الأمني-الديني، الأمر الذي قد يشكل على المديين المتوسط والبعيد مدخلا لتعزيز فرص وإمكانات بناء اندماج أمني بين-جهوي مستدام بين منطقتي شمال إفريقيا والساحل -جنوب الصحراء. فبالنسبة للدول الإفريقية التي انخرطت في التعاون الديني مع المغرب، يلاحظ أن القاسم المشترك بينها هو أنها بصدد تدبير المرحلة الانتقالية التي تعقب الثورات أو الصراعات كما هو الشأن بالنسبة لدول تونس وليبيا ومالي، أو بصدد اتخاذ سياسات احترازية للوقاية من تداعيات وآثار المعضلات التي تعاني منها الدول المشار إليها، كما هو الشأن بالنسبة لدول النيجر وغينيا وساحل العاج والسنغال. وفي كلتا الحالتين، يمكن الحديث عن حصول وعي وإدراك جدي بأهمية ومركزية إعادة بناء الحقل الديني والتحكم فيه ضمن ترتيبات وجهود إعادة بناء تلك الدول، وذلك وفق مقاربات واقعية، ذكية ومرنة، مختلفة عن التعاطي الأمني أو الإهمال الذي تعرض له في السابق.

بخصوص حالتي تونس وليبيا، فهما يتطلعان الاستفادة من التجربة المغربية في إصلاح المجال الديني لتجاوز إخفاقات التجارب السابقة التي كانت تعتمد على المنطق الأمني الصرف في تدبير المنظومة الدينية في عهدي بنعلي والقذافي. ولعل هذا السبب هو الذي يفسر كيف خلّف انهيار تلك الأنظمة السلطوية فراغا قاتلا استغلته الجماعات الجهادية لبسط سيطرتها على الفضاءات الدينية وتكثيف استقطابها في أوساط الشباب ضعيفي الوعي الديني.

أما بالنسبة لحالة مالي ودول الساحل الأخرى، فسهولة اختراقها من طرف تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي –وغيرها من الجماعات الجهادية الأخرى راجع، بالإضافة إلى الهشاشة الأمنية والسياسية للمنطقة، إلى هشاشة من نوع أخر تتعلق بضعف أنماط التدين وهزالة المعرفة الدينية للساكنة وضعف مأسسة الحقل الديني وضبط فضاءاته والفاعلين فيه[15]، الأمر الذي مَكَّن تلك الجماعات من التغلغل وإيجاد حاضنة اجتماعية لها بتلك المنطقة. وبالتالي فالرهان هو مراجعة السياسات الدينية للدول المعنية، من خلال إعادة بناء المؤسسات الدينية والخطابات الأرثوذكسية التي تنتجها على أسس قوية تتلاءم مع الخصوصية المذهبية والعقدية وتساير الممارسات والتقاليد الدينية المحلية التي تشكل عموما قاسما مشتركا بين الإسلام المغاربي والإسلام الإفريقي جنوب الصحراء.

 

تصدير “الأمن الروحي” إلى أفريقيا

من المبكر تقييم نجاعة وآثر الإستراتيجية الدينية الجديدة، إذ يبدو أنها تشتغل وفق وتيرة متأنية وطويلة النفس يرجح ألا تظهر نتائجها إلا على المديين المتوسط والبعيد. فمع تطور التجربة والنتائج الملموسة التي قد تحرزها تدريجيا، يطمح المغرب في توسيع قائمة الدول الراغبة في الاستفادة من التجربة، الأمر الذي قد يكسب المملكة ثقلا جيو-استراتيجي ويجعل منها فاعلا إقليميا قادر على الانخراط في دينامية التعاون جنوب-جنوب والإسهام إيجابيا في الإستراتيجيات الإقليمية والدولية متعددة الأطراف المتعلقة بمحاربة التطرف وتعزيز السلم الإقليمي بالمنطقة.

بيد أن طموحات المملكة تواجهها بالمقابل تحديات قد تعيق تقدمها، لعل من أبرزها المنافسة الشرسة من مرجعيات دينية ذات الصلة بقوى إقليمية أخرى، من دول الخليج أساسا، والتي أضحت تنافس بقوة تواجد المغرب الروحي والتاريخي بالمنطقة، وتسعى جاهدة من جهتها لإيجاد موطئ قدم لها وتوسيع نفوذها بالقارة الإفريقية، مسخرة أموال وإمكانات ضخمة في مجال الدعوة الإسلامية والتعليم والعمل الخيري والاجتماعي مثل بناء المستشفيات وحفر الآبار وتقديم إعانات للمحتاجين.

يواجه المغرب منافسة أيضا من داخل منطقة شمال إفريقيا، وتجسدها أساسا مؤسسة الأزهر المصرية التي لديها تواجد ميداني نشيط بإفريقيا[16]، من خلال شبكة من المؤسسات التعليمية والمساجد التي تنشط بقوة في دول مثل السنغال والكوت ديفوار، يؤطرها عدد مهم من العلماء والدعاة والمدرسين بتوجيه وتنسيق من موظفين ومفتشين مركزيين تابعين مباشرة لمؤسسة الأزهر.

الجزائر بدورها دخلت على خط المنافسة. فالواضح أن هذا البلد المغاربي لا ينظر بعين الرضا إلى التحركات المغربية الرامية لبناء زعامة-سلطة روحية إقليمية مؤثرة ونافدة بالمنطقة، وتعبئ في سبيل ذلك العديد من القنوات والأدوات الرسمية والمدنية لكسر النفوذ المغربي في هذا المجال. وفي هذا الصدد يمكن أن نفهم ملابسات الإعلان عن تأسيس ”رابطة علماء وأئمة ودعاة منطقة الساحل” بالجزائر سنة 2013، وكذلك المحاولات المستمرة لدعم زاوية عين ماضي وتلمسان وتعبئة جهودهما لاستقطاب مقدمي وأعيان الطريقة التيجانية ممن هم خارج شبكة نفوذ زاوية فاس الأم، هذا فضلا عن رفضها القاطع إدماج المغرب في أي ترتيبات أو إطارات سياسية أو عسكرية أمنية تهم منطقة الساحل، كما سبقت الإشارة.

 

خلاصة

يطمح المغرب من وراء اقتسام خبرته في مجال “الأمن الروحي” إلى إعطاء دفعة قوية لسياسته الإفريقية الجديدة والعمل من خلالها على تعزيز موقعه وتوسيع نفوذه داخل القارة الإفريقية. فمع تنامي بؤر التوتر واتساع مظاهر التطرف في بعض دول الساحل وغرب إفريقيا، لاسيما بعد سقوط نظام القذافي، نجح المغرب في إبراز تجربته في تدبير الشأن الديني كقصة نجاح فريدة ونموذج جذّاب بالإمكان استلهامه في جهود استعادة الأمن والاستقرار بالمنطقة. يشكل تزايد عدد الدول الإفريقية التي انخرطت فعليا في برامج التعاون الديني مع المملكة مؤشرا كمّيا يعكس إلى حد ما هذا النجاح، بيد إن هذا الانخراط المتزايد، على أهميته، لا يؤشر بالضرورة على نجاعة برامج التعاون المشار إليها، كما أنهلا يضمن حتما تحقق المخرجات والأهداف المرسومة لها من طرف النظام المغربي.

فإذا كان من السابق لأوانه إخضاع هذه البرامج والمبادرات لتقييم نوعي الآن، سواء على مستوى أدوات وميكانزمات اشتغالها أو على مستوى حصيلتها، إلا أن هناك تساؤلا جوهريا وملحا لامناص من طرحه: ففي ضوء المشهد التنافسي والاستقطاب الحاد التي تخترق الحقول الدينية ببعض الدول المعنية بالتعاون الديني مع المملكة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، يحق لنا أن نتساءل عن مدى قدرة العمل الديني الذي يرعاه المغرب في إفريقيا على إفراز نخب ورموز دينية وازنة ورعاية مشيخات لها ولاء ثابث للمملكة، مع ما يستتبع ذلك من إقامة مؤسسات تأطيرية فاعلة ونشيطة تقوي الوجود المغربي هناك وتطبّع حضوره الميداني في مواجهة المرجعيات الدينية المنافسة؟ أما في الحالة المقابلة، أي عدم استشراف ذلك الهدف كرؤية وكأفق استراتيجي للعمل الديني المغربي بإفريقيا،ألن يكون الموضوع ليس أكثر من سياسة فوقية نشيطة تتحرك جيدا على السطح، مدعّمة بعمل تسويقي وإعلامي مكثف ومدروس، لكنها تبقى في واقع الأمر منقطعة الجذور وبدون أي امتدادات وأثر فعلي وملموس على الأرض؟

 

الهوامش

[1] المادة 4 من الظهير الشريف رقم 1-15-75 صادر في 24 يونيو 2015 المتعلق بإحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. الجريدة الرسمية، ع 6372، 25 يونيو 2015، ص 5996-6000.

[2] للمزيد حول هذا النقطة، يراجع: حميمنات، س، 2018.السياسة الدينية بالمغرب (1984-2002): أصولية الدولة وإكراهات التحديث السلطوي. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق.

[3]حول توزيع الزيارات الملكية خلال الستة عشر سنة الماضية، أنظر “الإنفوجراف” الذي نشرته صحيفة “جون أفريك” الفرنسية بتاريخ 28 نوفمبر 2016:

http://www.jeuneafrique.com/mag/376906/politique/infographie-mohammed-vi-roi-voyageur/ (accessed  29-12-2016) 

[4] للمزيد من التفاصيل حول “الصلاة الملكية” بإفريقيا، أنظر دراستنا التي ستصدر قريبا:

Hmimnat, S. (forthcoming). «‘Spiritual Security’ as a (Meta-)political Strategy to Compete over Regional Leadership: Formation of Morocco’s Transnational Religious Policy towards Africa». The Journal of North Africa Studies.

[5]نشاطات أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس خلال زياراته بكل من السينغال، الكوت ديفوار والغابون. الموقع الإلكتروني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 28/03/2013:

http://www.habous.gov.ma/إمارة-المؤمنين/2865-أمير-المؤمنين-السنغال-الكوت-ديفوار-الغابون-مارس-2013.html(accessed 22/12/2016)

[6]Hmimnat, Op. Cit.

[7] بلال التليدي، الحركة ومنتدى الوسطية: الرسالة والدلالات. التجديد (افتتاحية)، غشت، 2014. 

http://www.jadidpresse.com/info.php?info=13808 (accessed 14-12-2014) 

[8]Fassi Fihri, I., ed. 2015. Le Maroc en Afrique, La voie Royale. Rabat: Institut Amadeus.

[9] أنظر نص الخطاب الذي ألقاه الملك بباماكو خلال حفل تنصيب الرئيس المالي الجديد، موقع بوابة المغرب، سبتمبر، 2013

www.maroc.ma/ar/جلالة-الملك-يحضر-حفل-تنصيب-الرئيس-المالي-الجديد/أنشطة-ملكية (accessed 22/04/2016)

[10] في تصريحه لبرنامج “مباشرة معكم” الذي تبته القناة الثانية المغربية، أكدعبد الحق الخيام، مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية، على أن الجزائر، التي ”هي قريبة منا والتي توجد على الحدود معنا، وهي تقع في منطقة محاطة بالتوترات الأمنية، فما تزال ترفض التعاون الأمني مع المغرب.” مضيفا “إن عدم تعاون الجزائر إستخباراتيا مع المغرب يشكل خطرا ليس فقط على المواطنين المغاربة، بل أيضا على المواطنين الجزائريين والتونسيين والليبيين والموريتانيين”. أنظر:

www.2m.ma/ar/news/الخيام-في-مباشرة-معكم-التعاون-الأمني-ممتاز-مع-جميع-الدول-باستثناء-الجزائر-التي-ترفض-التعاون-20170927 (accessed 24/10/2017)

[11] تجمع دول الساحل والصحراء هو منظمة إقليمية تتألف من 29 دولة إفريقية، تم إنشاؤها سنة 1998 بطرابلس (ليبيا)، وتعمل أساسا من أجل تحقيق الاندماج الاقتصادي بين أعضائها ومواجهة تحديات عدم الاستقرار والأزمة الغذائية والتصحر بالمنطقة. حول جهود إعادة إحياء هذا التجمع، بعد وفاة مؤسسه معمر القدافي، وسعي المغرب إيجاد موضع قدم في هذه الدينامية، أنظر، بنجامين نيكلز: المغرب ينخرط في تجمّع دول الساحل. نشرة صدى(مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي)، يناير 2013:

http://carnegieendowment.org/sada/50491(accessed 7/04/2017)

[12] أنظر “بيان نواكشوط” الصادر عن الاجتماع الأول لوزراء الشؤون الدينية لدول اتحاد المغرب العربي، موقع المغرب العربي، شتنبر 2012

http://www.maghrebarabe.org/ar/communiques.cfm?id=109 (accessed 3/11/2016)

[13] Cité in,Jeune Afrique, 08/10/2010, http://www.jeuneafrique.com/194653/politique/mobilisation-g-n-rale-ou-presque/ (accessed 28/01/2014).

[14]http://www.un.org/en/sc/ctc/docs/2014/Concept_note.pdf(consulted 27/06/2015).

[15]إذا أخذنا حالة مالي كنموذج، فقد ظل تدبير الشأن الديني وتنظيم أنشطة الجمعيات الدينية إلى حدود السنوات الأخيرة يتم عن طريق قسم خاص ملحق بوزارة الداخلية، غير أنه في أعقاب أزمة 2012، سيتم لأول مرة إحداث “وزارة الشؤون الدينية والشعائر” في الحكومة الانتقالية التي عينت في نفس السنة.  

[16]حول هذه النقطة، يراجع:

Bava, S. 2014. «Al Azhar, scènerenouvelée de l’imaginaire religieuxsur les routes de la migrationafricaine au Caire», L’Année duMaghreb, n° 11, p. 37-55.

[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

سليم حميمنات

سليم حميمنات

أستاذ باحث بمعهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس الرباط. صدرت له العديد من الأبحاث والدراسات آخرها إصداره الموسوم"السياسة الدينية بالمغرب (1984-2002): أصولية الدولة وإكراهات التحديث السلطوي" عن دار إفريقيا الشرق.