[vc_row][vc_column][vc_column_text]
الكاتب: محمد مصباح
مثلت احتجاجات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا مفاجأة لعدد من المتابعين لشؤون العالم العربي. فقد كانت تشير بعض التنبؤات إلى احتمال تفجر موجة ثانية من الربيع العربي، ولكن يبدو أنه بدلا من ذلك، انتقلت موجة الغضب إلى أوروبا.
من المبكر القول إن هذه الاحتجاجات التي أخذت منحى عنيفا تمثل موجة جديدة من الثورات أو “ربيع أوروبي“. فهي إلى حدود الساعة حركة محدودة النطاق، ولكنها نجحت في وضع نفسها في بؤرة التركيز الإعلامي بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي وفرت لهذه الحركة صدى إعلاميا لافتا، وأيضا بسبب عنفها وفوضويتها، لا سيما استهداف رموز الدولة الفرنسية مثل تدمير تمثال ماريان في قوس النصر بشارع النصر بباريس، والذي يشير إلى قيم الثورة الفرنسية. هناك عامل آخر غير مباشر، وهو التعامل المزدوج للسلطات الفرنسية مع هذه الاحتجاجات. ففي مرحلة أولى تعاملت بنوع من القمع القاسي، الأمر الذي أدى إلى سقوط ضحايا، ولكن بعد ذلك انتقلت إلى الحوار لتليين وامتصاص غضب المحتجين. ولكن أيا من المقاربتين نجحت في امتصاص الغضب بشكل كامل.
توشي ميزات هذه الحركة “الغاضبة” وأسلوبها بأننا أمام جيل جديد من الحركات الاحتجاجية، يختلف في خصائصه عن الحركات الاحتجاجية الكلاسيكية التي تعتمد عادة على مطالب محددة وتتميز بالحد الأدنى من التنظيم، وتكون مسنودة بتنظيمات سياسية أونقابية. ولكن أيا من هذه الميزات لا يتوفر في احتجاجات السترات الصفراء بشكل واضح. فهي ظاهرة تتميز بدرجة عالية من الغموض والتناقض أحيانا. فقد دعمتها أصوات تنتمي إلى أقصى اليمين واليسار. كما أن مطالبها تتنوع بين الدعوة إلى إنقاص الضرائب ومايرتبط بها من تخفيف الالتزامات الاجتماعية للدولة، وهي مطالب يمينية بالأساس، ولكن في المقابل، أيضا، دعمت الاحتجاجات أصوات يسارية متشددة لأسباب مختلفة تماما. وهو ما يضعنا أمام صورة في غاية الغموض.
ربما يكون لكل محتج سبب في الخروج للشارع للاحتجاج، ولكن القضية الأساسية التي تجمع بينهم هي “الغضب” و“الإحساس بالظلم“. وهي تعبير عن درجة انقسام داخل المجتمع وتوشي بوجود “أزمة“ ليس فقط في فرنسا، ولكن في أوروبا بشكل عام. هذه الأزمة مركبة من عدة عناصر: اقتصادية، سياسية واجتماعية. فمع حالة الركود الذي أصاب الاقتصاد بعد الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008 لم تعد الحكومات تستطيع تحمل كلفة تحقيق “دولة الرخاء الاجتماعي“، وأصبح المواطن يحس بأعباء اجتماعية متزايدة بعدما ألف مستوى عيش معين. فأمام الحكومات خياران، إما الرفع من الضرائب للحفاظ على المستوى نفسه من “الرخاء الاجتماعي” أو تقليصها وما يرتبط به من تخلي الدولة عن عدد من التزاماتها الاجتماعية، إضافة إلى عدد من المجالات، في الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية. ويظهر أنها معادلة صفرية، لأن تبني أحد الخيارين يعني التخلي عن الخيار الآخر.
وفي كل الحالات، تشير احتجاجات السترات الصفراء إلى حالة منعدم الثقة، ليس فقط في سياسات الحكومات، ولكن أيضا في المؤسسات الوسيطة، أي النقابات والأحزاب السياسية والمجتمع المدني. وهناك تنامي للشكوك في قدرة نظام الديمقراطية التمثيلية في إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية، وهو ما يفسر إلى حد ما تصاعد الخطابات اليمينية المتطرفة والخطابات المعادية للأجانب والإسلاموفوبيا.
إن ما يحصل في فرنسا اليوم، يقدم درسا أساسيا للمغرب والعالم العربي. وهو أن حالة عدم الثقة في المؤسسات والسياسيين، يخلق فراغا، وهذا الفراغ يدفع المواطنين للتعبير عن أفكارهم من خارج الأطر المؤسسية. إذا لم يتم التعامل مع المسألة الاجتماعية والاقتصادية بجدية، فقد تتحول لكرة ثلج متدحرجة لا يمكن إيقافها.
نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار اليوم
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]
مدونة المعهد
مدونة المعهد المغربي لتحليل السياسات.