الأبحاثالتحول الديمقراطيصمت الجامعات العربية (المفاجئ) بشأن فلسطين

على مدى الأشهر القليلة الماضية، انخرطت الجامعات في أمريكا وأوروبا في صلب الاحتجاجات المناصرة لغزة. لكن لماذا التزمت الجامعات العربية الصمت على الرغم من تاريخها الحراكي الغني؟

على مدى الأشهر القليلة الماضية، انخرطت الجامعات في أمريكا وأوروبا في صلب الاحتجاجات المناصرة لغزة. لكن لماذا التزمت الجامعات العربية الصمت على الرغم من تاريخها الحراكي الغني؟

 

 

منذ منتصف أبريل 2024، تصدّرت مؤسّسات أكاديمية غربية، ومن ضمنها جامعات أمريكية نخبوية، الاحتجاجات الداعمة لفلسطين، بيد أنّ نظيراتها العربية ظلّت صامتة على نحو غريب. وهذا الصمت لافت بشكل خاص لا سيّما وأن جامعات الشرق الأوسط شكّلت تاريخياً بؤراً ساخنة للاحتجاجات والانخراط النشاطي الداعم للقضية الفلسطينية. ويتعارض هذا الغياب أيضاً مع الدعم الواسع لفلسطين بين الرأي العام العربي، إذ تشير الاستطلاعات الأخيرة إلى دعم قوي للقضية الفلسطينية في جميع أنحاء المنطقة. ووفقاً لاستطلاع المؤشر العربي في يناير 2024،[1] يعتقد أكثر من 92 في المئة من المواطنين في البلدان التي شملها الاستطلاع أنّ المسألة الفلسطينية قضية جميع العرب، وليس الفلسطينيين وحدهم، ويعارض 89 في المئة منهم الاعتراف بإسرائيل. وكشف استطلاع آخر أجراه الباروميتر العربي قبل عام عن أنماط مماثلة بين فئات الشباب (بين 18 و29 عاماً)، إذ عارض 84 في المئة التطبيع مع إسرائيل.[2]

 

فهم صمت الجامعات العربية

إذاً، لماذا لم يعكس النشاط الجامعي في المنطقة الدعم الواسع بين الشباب منذ بدء الحصار الإسرائيلي العقابي لغزة، وخصوصاً عند مقارنته بالتحرّك الطلابي في السابق؟

أولاً، شهدت جامعات المنطقة العربية على مدى العقدين الماضيين ابتعاداً عن العمل السياسي، وأدّى إلى تحوّل كبير في مشهدها الأيديولوجي. وبرز هذا التغيير بوضوح في أعقاب الثورات العربية في العام 2011، والقمع الذي مارسته الحكومات وخصوصاً في الجامعات. نتيجة لذلك، تحوّل النشاط الشبابي إلى «نشاط غير سياسي»، مع التركيز على قضايا مصنّفة غير سياسية مثل التنمية المحلّية والمطالب القطاعية. وتناقض هذا مع المطالب بالعدالة الاجتماعية والإصلاحات المؤسّسية ومحاربة الفساد التي شكّلت أساس احتجاجات الربيع العربي.

ويتناقض ذلك مع دور الجامعات التاريخي في المنطقة. بعد حقبة الاستقلال في النصف الأول من القرن العشرين وصولاً إلى فجر القرن الحادي والعشرين، كانت الجامعات في العالم العربي في قلب التعبئة السياسية. ويرجع هذا بشكل أساسي إلى هيمنة الأيديولوجيات الإسلامية واليسارية على الأحرام الجامعية. لقد كانت كلتا الأيديولوجيتين فاعلة وقوية في المجال العام الأوسع وتبنّتا القضية الفلسطينية كأحد ركائز نشاطهما في الجامعات وخارجها. كما كانتا على استعداد لتحمّل مخاطر أكبر بكثير في مواجهة الأنظمة القمعية.

بيد أنّ العقدين الماضيين شهدا تغيير تدريجي حيث خفتت قوّة الفكرين الإسلامي واليساري على المستوى الشعبي، وبالتالي تراجع أيضاً حشدها الأيديولوجي داخل الجامعات، ما نتج عنه تدنّي مستوى التعبئة السياسية الداعمة لفلسطين.

ثانياً، برزت هيمنة أمنية على الفضاء العام المادي بعد الربيع العربي. لقد أكّد الربيع العربي إمكانية تحوّل أي نوع من الاحتجاج إلى مكان لتحدّي الأنظمة السلطوية، ومن ضمنها الاحتجاجات من أجل فلسطين. وبالنتيجة، لم تعد الأنظمة متسامحة مع الاحتجاجات واعتبرتها قوى مزعزعة للاستقرار. وكثّفت حكومات المنطقة حملات القمع ضد الاحتجاجات، وسنّت قوانين تقيّد التجمّعات العامة والتظاهرات. على سبيل المثال، قمعت مصر الاحتجاجات السلمية المؤيّدة لفلسطين في أكتوبر 2023 واعتقلت العشرات من الناشطين. وبالمثل، اعتقلت السلطات في الأردن ما لا يقل عن 1500 شخص منذ 7 أكتوبر، من ضمنهم نحو 500 شخص اعتُقلوا في أعقاب احتجاجات كبيرة خارج السفارة الإسرائيلية في عمّان في مارس 2024.

ويتناقض هذا الواقع الجديد مع الحقبة السابقة حين كان الاحتجاج من أجل فلسطين مسموحاً في معظم البلدان العربية، حتى في الأنظمة السلطوية المتشدّدة مثل سوريا ومصر. في الواقع، لطالما اعتبرت الأنظمة السلطوية أن الاحتجاجات المؤيّدة لفلسطين في مصلحتها، إذ وفّرت لها صمّام أمان فعّال لتوجيه استياء السكّان حيال الأوضاع الاقتصادية الصعبة وانعدام الحرّيات نحو التهديدات الخارجية مثل التدخّل الغربي والإمبريالية والصهيونية. وسمحت لها كذلك بتصوير نفسها على أنّها قومية عربية مناهضة لما أطّرته كهيمنة غربية.

وعلى الرغم من كل هذا، أثار الوضع في غزة بعض الاحتجاجات داخل الجامعات في العالم العربي، بيد أنّ معظمها كان في الجامعات المرتبطة بالغرب، مثل الجامعة الأمريكية في القاهرة والجامعة الأمريكية في بيروت. ومع ذلك، لم تكن بالحجم والتأثير اللذين طُبعت بهما في الماضي.

 

الإجهاد من الاحتجاجات

الإجهاد هو التفسير الثالث لانخفاض وتيرة الاحتجاجات والحماس تجاهها في الأحرام الجامعية، حتى في بلدان مستوى القمع الحكومي فيها أقل حدّة، وقد تتسامح حكوماتها مع الاحتجاجات المؤيّدة لفلسطين مثل الجزائر وتونس ولبنان، وبدرجة أقل المغرب.

في الجزائر، على سبيل المثال، كانت الاحتجاجات نادرة على نحو غريب، سواء في الشوارع أو في الجامعات، على الرغم من دعم النظام الجزائري الكبير لفلسطين. فقد كانت الحكومة الجزائرية نشطة للغاية في مجلس الأمن، وصاغت اقتراحاً في 18 أبريل 2024 لمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتّحدة. ومع ذلك، يرجح الافتقار إلى النشاط العام الداعم لفلسطين إلى الإجهاد الذي أعقب الاحتجاحات أو الحراك الجزائري على الأرجح الذي اندلع في أوائل العام 2019 واستمرّ لمدة عام تقريباً اعتراضاً على الولاية الخامسة للرئيس آنذاك عبد العزيز بوتفليقة.

تساعد ظاهرة مماثلة في تفسير الوضع في تونس، حيث الاحتجاجات المؤيّدة لفلسطين متقطّعة ومحدودة، والنشاط الهادف في الجامعات نادر. بعد 12 عاماً من انعدام الاستقرار السياسي أعقبت ثورة الياسمين في تونس، يسود شعور عام بأنّ الحكومة تفعل ما في وسعها، ومن غير المرجّح أن تمارس الاحتجاجات أي ضغوط إضافية.

 

هل اختفى الدعم العربي لفلسطين؟

في وسط المساحة المادية الأقل تسامحاً للمشاركة في الاحتجاجات، يبرز تحوّل متزايد في العالم العربي نحو وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للعمل النشاطي. على سبيل المثال، وزّعت حركة جديدة تسمّى «طلاب مصريون لأجل فلسطين» بياناً على الإنترنت في 5 مايو يدعو الطلاب في مصر للانضمام. ومع ذلك، كانت الحكومات ومديري وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً قمعيين في مراقبة المحتوى المؤيّد للفلسطينيين. على سبيل المثال، حاكمت السلطات في الأردن العشرات من الناشطين بموجب قانون الجرائم الإلكترونية بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي مؤيّدة للفلسطينيين، أو تنتقد اتفاقية السلام بين السلطات الأردنية وإسرائيل، أو تدعو إلى الاحتجاجات السلمية والإضرابات العامة.

يجد مؤيّدو القضية الفلسطينية الصمت النسبي في الجامعات العربية إزاء الكارثة المستمرّة  في غزة أمراً مُحبطاً للغاية. لكن لا بدّ أن نتذكر أنّ الجامعات ليست كيانات ثابتة ولا ينبغي اعتبار الوضع الحالي دائماً، إذ يمكن لجيل جديد من الناشطين المدفوعين بأيديولوجيات ومقاربات مختلفة للانخراط في العمل النشاطي أن ينبثق في أي وقت في العالم العربي.  ولعلّ الربيع العربي الذي تفتّح في العام 2011 يذكّرنا بأنّ الشارع العربي، ولا سيّما طلاب الجامعات، يمكن أن يتحرّك ويشتعل من دون سابق إنذار.

 

نشرت هذه المقالة من طرف مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

محمد مصباح

محمد مصباح

محمد مصباح هو مؤسس ورئيس المعهد المغربي لتحليل السياسات (MIPA) وهو خبير في علم الاجتماع السياسي. تركز أعماله أساسا على السياسات العمومية والديمقراطية والإسلام السياسي، مع اهتمام خاص بشمال إفريقيا. الدكتور مصباح هو زميل مشارك في معهد تشاتام هاوس-لندن وأستاذ زائر في جامعة محمد الخامس، وكان في السابق باحثا غير مقيم في مؤسسة كارنيغي-الشرق الأوسط، وزميلا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (Stiftung Wissenschaft und Politik, SWP) في برلين. حصل الدكتور مصباح على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة محمد الخامس بالرباط، و تناولت أطروحته التيارات السلفية بالمغاربة منذ تفجيرات الدار البيضاء عام 2003. تضم أحدث منشوراته: • •الجهاديون المغاربة: جدل المحلي والعالمي، مركز الجزيرة للدراسات، 2021. • مؤشر الثقة في المؤسسات 2020، المعهد المغربي لتحليل السياسات، 2020. • Rise and Endurance: Moderate Islamists and Electoral Politics in the Aftermath of the ‘Moroccan Spring’” in Islamists and the Politics of the Arab Uprisings: Governance, Pluralisation and Contention (Edinburgh University Press, 2018) للتواصل: m.masbah@mipa.institute