[vc_row][vc_column][vc_column_text]
سيظل سقف الأهداف السياسة الخارجية للجزائر خلال العقد القادم لا يتجاوز استغلال الفرص التي يتيحها الوضع الحالي بالمنطقة المغاربية دون الإخلال بتوازن القوى القائم
تحميل المقال
الملخص التنفيذي
أجرت الجزائر انتخابات رئاسية جديدة بعد سنة تقريبا من الحراك الشعبي الذي أطاح بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وقد سجلت مواضيع السياسة الخارجية حضورا لافتا في خطاب الرئيس الجزائري الجديد، عبد المجيد تبون، الذي أعلن عن عزمه على استعادة الجزائر لدورها الدبلوماسي لاسيما في جوارها الإقليمي. ورغم أن الجزائر تمتلك عناصر قوة كامنة مهمة –لا سيما القوة الاقتصادية والديموغرافية– يمكن أن تجعلها فاعلا إقليميا أساسيا في منطقة شمال إفريقيا، إذا وظفت هذه العناصر بعقلانية؛ إلا أن هناك عوائق داخلية وإقليمية ستحد من طموحاتها، وتجعل سقف أهداف سياستها الخارجية لا يتجاوز استغلال الفرص التي يتيحها الوضع الراهن بالمنطقة المغاربية دون الإخلال بتوازن القوى القائم.
مقدمة
تعد الانتخابات الرئاسية التي أجريت بالجزائر في 12 ديسمبر 2019 حدثا سياسيا مفصليا في تاريخ الجزائر المعاصر، ليس فقط لأنها تمخضت عن حراك شعبي لا يزال مستمرا حتى الآن – وإن كان بزخم أقل عما كان عليه في الشهور الأولى من اندلاعه – ولكن أيضا لأنها جاءت في سياق إقليمي مضطرب. فقد كان للحراك الشعبي الذي انطلق في فبراير 2019 دور أساسي في إجراء هذه الانتخابات بعدما استطاع جناح من السلطة الحاكمة ترجيح قوته على حساب مجموعة من العسكريين والسياسيين ورجال الأعمال المحيطين بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وكان الإعلان عن ترشح الرئيس السابق لولاية خامسة سببا مباشرا لاندلاع احتجاجات واسعة في مناطق كثيرة بالجزائر، والتي ستتحول خلال أيام إلى حراك شعبي واسع. وأدى في الأخير إلى تمكن الفريق أحمد قايد صالح من القيادة الفعلية للدولة، والدعوة لإجراء انتخابات رئاسية قصد امتصاص الغضب الشعبي وملء الفراغ الدستوري الذي تركته استقالة الرئيس بوتفليقة. وقد فاز بهذه الانتخابات كما كان منتظرا عبد المجيد تبون الذي شغل مناصب وزارية كثيرة في السابق، ومن ضمنها رئاسة الوزراء في حكومة 2017.
بالإضافة إلى الوعود الكثيرة التي أطلقها الرئيس الحالي سواء خلال الحملة الانتخابية أو بعد انتخابه لتجاوز المأزق السياسي في الداخل، وتحسين الوضع العام في البلاد، احتلت قضايا السياسة الخارجية حيزا مهما في خطابه السياسي، لاسيما ما يتعلق بالجوار الإقليمي للجزائر. وعبر عن مواقف متشددة، وأحيانا مستفزة، تجاه القضايا الخلافية مع المغرب وخاصة قضية الصحراء الغربية وفتح الحدود البرية. ورغم تخفيفه لخطابه نسبيا تجاه المغرب بعد توليه السلطة رسميا، لكنه حافظ على المواقف ذاتها لكن بلغة أقل حدة.
ولعل من أبرز ما ميز خطابات الرئيس عبد المجيد تبون بعد تنصيبه في 19 ديسمبر 2019 إعلان عزمه على استعادة الجزائر لدورها الدبلوماسي لاسيما في جوارها الإقليمي والقضية الفلسطينية. فقد شهدت نفوذ الجزائر خلال العقود الثلاثة الأخيرة تراجعا كبيرا في الكثير من المناطق التي كانت فيها فاعلا مؤثرا، ومن ضمنها المنطقة المغاربية وإفريقيا.
مرت الدبلوماسية الجزائرية منذ الاستقلال بفترات متقلبة من القوة والضعف. وتعتبر فترة الستينات والسبعينات العصر الذهبي للدبلوماسية الجزائرية حيث أنشأت شبكة واسعة من العلاقات المؤثرة لاسيما مع دول عدم الانحياز والمعسكر الاشتراكي. وسيتراجع بعد ذلك نشاط الجزائر الدولي خلال العقود اللاحقة ليصل إلى حالة الخفوت خلال عقد التسعينيات مع موجة العنف والاضطراب التي اجتاحت البلاد بعد إلغاء الانتخابات التشريعية في عام 1990. ورغم محاولات العودة إلى المشهدين الدولي والإقليمي بعد نهاية ما سمي بالعشرية السوداء[1]، إلا أن الجزائر لم تستطع أن تستعيد عنفوان دبلوماسيتها بسبب جمود النظام السياسي خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأيضا نظرا لعدم استقرار أسعار النفط التي تعد المصدر الرئيسي للدخل وأحد عناصر قوة الدبلوماسية الجزائرية.
تروم هذه الورقة استشراف التوجه العام للسياسة الخارجية للجزائر خلال العقد القادم. وذلك لمعرفة التأثيرات المحتملة للانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتغيير الذي حدث على رأس قيادة أركان الجيش، والإجراءات السياسية والقضائية التي صاحبت الحراك الشعبي، على التوجه العام للسياسة الخارجية الجزائرية من جهة، وعلى الوضع الإقليمي المغاربي العام من جهة ثانية، ولاسيما ما يتعلق بالعلاقات المغربية الجزائرية.
وقد تم اعتماد مدة عشر سنوات لأنها تمثل المدة الأقصى التي يمكن أن يمكث فيها الرئيس في سدة الحكم. إن وجود توافق بين العناصر النافذة في المؤسسة العسكرية على الرئيس الحالي يرجح احتمال استمراره لولايتين اثنتين في قصر المرادية. إذ يحدد الدستور الجزائري المهمة الرئاسية الواحدة في خمس سنوات، ويمكن تجديد انتخابه مرة واحدة. وهذا يعني أن الرئيس الحالي قد يحكم في الراجح عقدا كاملا إذا تولى ولايتين رئاسيتين متتاليتين. ومن هنا، فإن اعتماد فترةعشر سنوات يساعد على استشراف مستقبل السياسة الخارجية الجزائرية خلال الفترة القادمة. وهذا بالرغم من أنه ينبغي التأكيد على أن السياسة الخارجية لا ترتبط فقط بشخصية الرئيس من حيث ثباتها وتقلباتها، بل أيضا بمجموعة من العوامل الموضوعية الداخلية والخارجية والتي تعتبر هي المحدد الأساسي لها.
السياسة الخارجية الجزائرية والنظام الإقليمي: التأثير والتأثر
يعد النظام الإقليمي الفرعي (Regional Subsystem)، إطارا ملائما لدراسة التفاعلات السياسية والاقتصادية والأمنية بين دول المنطقة، لأن تأثير هذه التفاعلات يكون أكبر عبر مسافات متقاربة أكثر من المسافات المتباعدة. ونظرا للعلاقة القائمة على الاعتماد المتبادل (interdependence) بين طبيعة النظام الإقليمي القائم وتوجه السياسة الخارجية لدول المنطقة، فلا يمكن رسم سيناريوهات مستقبل هذه السياسة دون فهم عناصرها البنيوية الإقليمية والداخلية، وهو ما سيسمح بتحديد الخيارات المتاحة للفاعل السياسي.
هناك محددات كثيرة تجعل علاقة السياسة الخارجية الجزائرية بمحيطها الإقليمي يحكمها عامل التأثير المتبادل. أولا، مكانة الجزائر، إلى جانب المغرب، باعتبارها دولة محورية في النظام المغاربي، وأن أي تغيير مهم في مشهدها السياسي الداخلي سينعكس تلقائيا على محيطها الإقليمي. ومن علامات أهمية الجزائر في المشهد السياسي المغاربي أنها البلد العربي الوحيد الذي طلبت منه الحكومة الليبية المعترف بها دوليا تفعيل اتفاقيات التعاون الأمني إلى جانب كل من تركيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإيطاليا. ولا يفسر هذه الدعوة فقط كون الجزائر تتقاسم مع ليبيا حدودا برية طويلة تقارب الألف كيلومتر، بل أيضا لقوة الجزائر العسكرية وسياستها الخارجية تجاه حكومة طرابلس. وهذا يظهر أهمية الجزائر لدى الحكومة الليبية، ومن شأن هذا أن يعزز نفوذ الجزائر في الداخل الليبي.
إضافة إلى ذلك، هناك تقارب ملحوظ بين الجزائر وتونس بعد فوز قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية التونسية في 13 أكتوبر 2019. وقد تبادلت الدولتان خلال الأسابيع الأخيرة، لاسيما بعد وصول عبد المجيد تبون إلى رئاسة الجزائر، زيارات رسمية كثيرة رفيعة المستوى، من بينها زيارة الرئيس التونسي للجزائر في أول زيارة رسمية له للخارج في 1 فبراير 2020. وأعلنت الجزائر خلال هذه الزيارة عن وضع وديعة قيمتها 150 مليون دولار لدى البنك المركزي التونسي لمساعدة تونس على مواجهة الصعوبات الاقتصادية الحالية وتقديمها تسهيلات لسداد المستحقات المتأخرة للغاز والمحروقات الجزائرية.[2]رغم أن هذه الوديعة ليست مبلغا كبيرا، لكنها تظل مهمة جدا للاقتصاد التونسي. بدون شك فهذا الدعم المالي لتونس سيعزز علاقاتها بالجزائر، لكن هذه الأخيرة لا تستطيع أن تقدم مساعدات كثيرة لجارتها الشرقية بسبب ما يواجهه الاقتصاد الجزائري من صعوبات خلال السنوات الأخيرة. وتبقى تونس مقصدا لمئات الآلاف من السياح الجزائرين كل سنة، وقد يتزايد عددهم في المستقبل عندما تحقق تونس استقرارا سياسيا ، وتنوع من عرضها السياحي. وتجدر الإشارة إلى أن الجيش الجزائري قام بعمليات عسكرية داخل التراب التونسي في 2014،[3] وهي المرة الثالثة التي يتدخل فيها خارج الإقليم الجزائري بعد مشاركته في حربي 1967 و1973 ضد إسرائيل. لقد كانت تونس في ظل حكم كل من الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي أقرب سياسيا إلى المغرب منها إلى الجزائر لاعتبارات تاريخية. فهل ستتغير المعادلة في ظل حاجة تونس للدعم المالي والاقتصادي والعسكري الجزائري خلال السنوات القادمة وفي ظل ولاية الرئيسين الجديدين في كلا البلدين.
ويتمثل المحدد الثاني في ما يشهده المحيط الإقليمي للجزائر من اضطرابات تهدد الأمن القومي الجزائري، وخاصة استمرار الأزمة بليبيا التي تشترك مع الجزائر في 982 كلم والتي يصعب مراقبتها. تشكل الفوضى الأمنية وعدم الاستقرار السياسي في المحيط الإقليمي للجزائر تحديا وفرصة في الآن ذاته للدبلوماسية الجزائرية لتستعيد حيويتها. لكن يتوقف ذلك على قدرة السلطة الجديدة في الجزائر على استثمار هذا الوضع الإقليمي بشكل جيد للعودة إلى الساحة الإقليمية لتصير فاعلا إقليميا أساسيا.
أما المحدد الثالث فهو خوف الجزائر من أن غيابها عن الساحة الليبية سيجعل دول أخرى تعزز نفوذها هناك وتشكل تحالفات إقليمية ضد المصالح الجيوسياسة للجزائر، ومن ضمنها المغرب الذي لا يزال يلعب دورا مهما في الوساطة بين الفرقاء الليبيين. بمعني أن تنامي التدخل الدولي في الملف الليبي يستدعي من الجزائر أن تكون حاضرة في أي توافق دولي أو إقليمي على تسويته النهائية.
عناصر قوة الجزائر الكامنة
تملك الجزائر بعض عناصر القوة التي ستمكنها إذا وظفت بعقلانية من العودة بفعالية إلى المحيط الإقليمي خلال السنوات القادمة، وستدفعها أيضا إلى التشبث بمواقفها المتصلبة تجاه القضايا الخلافية مع المغرب.
وتعد القوة الاقتصادية والمالية أبرز هذه العناصر التي قد تمنح للجزائر امتيازا في القوة والنفوذ –على الأقل خلال السنوات القليلة القادمة– مقارنة مع باقي الدول المغاربية. أدت زيادة حجم الصادرات من المواد الهيدروكربونية خلال السنتين الأخيرتين إلى خفض العجز الحالي إلى 7.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018، بينما بلغ 13.6 في المائة في عام 2017.[4] وقد نمى الدخل الإجمالي الجزائري في 2018 بنسبة 1.4 في المائة، بينما بلغ في المغرب 3 في المائة، (وتونس 2.5 في المائة) ،[5] لكن لا يشكل هذا الفارق أي تقدم للمغرب لكون هذه النسبة تظل ضعيفة. وقد بلغ الناتج الوطني الإجمالي بالجزائر 174 مليار دولار في 2018، مقابل تقريبا 118 مليار دولار بالمغرب (تونس تقريبا 40 مليار دولار)[6]. وعلاوة على ذلك، تشير تقارير مجلس الذهب العالمي أن احتياطات الجزائر من الذهب ظلت ثابتة منذ 2008 حتي الآن حيث تبلغ 173.6 طن من الذهب، وتحتل الرتبة الثانية في العالم العربي بعد المملكة السعودية.[7] هذه الإمكانيات المالية الكبيرة قد تدفع الحكومات الجزائرية خلال السنوات القادمة إلى الاستمرار في اتخاذ مواقف متشددة فيما يتعلق بقضية الصحراء الغربية وإدارة حدودها البرية مع المغرب. إذا كان المغرب يتطلع إلى الاستفادة من أي تغيير إيجابي في المنطقة بما في ذلك إمكانية فتح الحدود البرية مع الجزائر، فإن هذه الأخيرة ليست في حاجة ماسة في هذا الوقت إلى الفوائد التي يمكن أن تجنيها من تطبيع العلاقات بين البلدين بسبب التراكم الكبير لمخزونها من العملات الأجنبية بفضل إيرادات النفط والغاز.
ويعتبر العنصر الديموغرافي أحد العوامل المهمة التي قد تحدث فارقا في المستقبل لصالح الجزائر مقارنة مع باقي الدول المغاربية، فمثلا كان عدد سكان المغرب قبل عام 1982 يتجاوز عدد سكان الجزائر، ليتساوى تقريبا خلال تلك السنة حيث كان عدد سكان كل دولة حوالي واحد وعشرين مليون نسمة. لكن منذ ذلك الوقت ، بدأت الفجوة الديموغرافية تتسع لصالح الجزائر.[8] في عام 2019 قدر عدد سكان المغرب بحوالي ستة وثلاثين مليون وأربعمائة ألف نسمة ، في حين بلغ مجموع سكان الجزائر ثلاثة وأربعين مليون نسمة تقريبا، وستزيد هذه الفجوة في الاتساع خلال العقود القادمة[9]. بالإضافة إلى الفارق الديموغرافي الكمي مع المغرب، فإن هناك أيضا تحسن ملحوظ لمستوى التنمية البشرية بالجزائر مع باقي الدول المغاربية، بما في ذلك المغرب. فقد احتلت الجزائر من حيث مؤشرات التنمية البشرية الرتبة 82 عالميا في عام 2018 مقارنة مع تونس في الرتبة 91، والمغرب في الرتبة 121.[10] من المرجح أن يمنح النمو السكاني الكمي والنوعي المتصاعد للجزائر ميزة مهمة، لكن الجمود السياسي وعدم استقرار أسعار النفط سوف يقللان من تأثير القوة الكامنة في الجزائر.
أما على المستوى العسكري، فرغم النمو الملحوظ لميزانية الجزائر العسكرية منذ 2004، حيث صار الإنفاق العسكري يشكل ما بين 5.2 و6.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الجزائري، بينما شكل في المغرب ما بين 3.1 و3.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المغربي،[11] فمن الصعب أن تحقق تفوقا عسكريا من حيث العتاد ونوعيته مقابل المغرب الذي يتبنى هو أيضا سياسة تسلح طموحة. وتجدر الإشارة إلى أن تطور تسلح الجزائر ليس هدفه المباشر تحقيق التفوق العسكري مع المغرب أو جيرانها المغاربيين، بل يكمن الهدف الرئيسي في مواجهة التحديات الأمنية العابرة للحدود التي أصبح تشكل تهديدا كبيرا لأمنها الوطني. ورغم أن كل دولة تنظر بتوجس لسياسات التسلح التي تنهجها الدولة الأخرى، وقد تفسر أيضا بكونها تعكس النوايا ”العدوانية“ لدى الدولة الجارة، فإن هذا التسلح من الجانبين يظل حتى الآن ”مناسبا“، ولا يمكن وصفه بسباق التسلح. ليس من مصلحة الجزائر –والمغرب أيضا– أن يؤدي تسلحها إلى تحقيق تفوق عسكري واضح من شأنه الإخلال بتوازن القوى القائم، أو دفع الدولة الأخرى إلى الدخول في تنافس حاد في هذا المجال.
حدود طموحات الجزائر
رغم عناصر القوة الكامنة المهمة التي تحوزها الجزائر، فإن هناك عوائق ستحد من طموحاتها الإقليمية، وتجعل احتمال حدوث أي تأثير ملموس لهذه الانتخابات على علاقات الجزائر بمحيطها الإقليمي أمرا مستبعدا. فعلى المستوى الداخلي، فإن التغيير الذي حدث في الجزائر لم يغير البنيات الأساسية للنظام السياسي، بل طال فقط بعض الأشخاص والمسؤوليات، ويمكن وصفه بتمكن جناح من الدولة العميقة على ترجيح موازين القوى لصالحه على حساب جناح آخر، وبقي جوهر النظام الجزائري على حاله. وسيحد ما يعتري الاقتصاد الجزائري من صعوبات بسبب تراجع وعدم استقرار إيرادات النفط والغاز من طموح السلطة الجديدة في الجزائر من لعب أدوار ريادية في المنطقة المغاربية. فلا يزال الاقتصاد الجزائري يهيمن عليه قطاع الهيدروكربونات، حيث تشكل صادرات النفط والغاز المصدر الرئيسي للدخل الوطني الجزائري بحيث تمثل 95 في المائة من مجموع إيرادات صادراتها.[12] ورغم الإصلاحات التي يمكن أن تقوم بها الجزائر لتنمية هذا القطاع، فإن كل التوقعات تؤكد أن إنتاج الغاز خلال عشر السنوات القادمة لن يستطيع أن يغطي الانخفاض المسجل في إنتاجه خلال السنوات الأخيرة، وسيكون أقل بكثير من الحجم الإضافي المطلوب لتلبية الاستهلاك المحلي.[13]
وقد تراجعت بسبب ذلك معدلات نمو الناتج الوطني الإجمالي بنسبة 1.5 في المائة في عام 2018 وفي الربع الأول من عام 2019[14]، ووصل عجز الموازنة إلى 7.3 في المائة، وعجز الحساب الجاري إلى 10 في المائة، وارتفع معدل البطالة إلى 11.7 في المائة في سبتمبر 2018[15]. ورغم أن حجم الاحتياطيات الدولية لايزال كبيرا، إلا أنه يشهد انخفاضا مستمرا.[16] كما أن إجمالي الديون أصبح يشكل 41.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لكن لا تزال الدولة تتحكم في هذا الدين الخارجي، وتحافظ عليه في مستويات منخفضة من خلال تمويل العجز في الميزانية عن طريق الاقتراض من البنك المركزي.[17]
قد يستطيع الاقتصاد الجزائري أن يقاوم تذبذب مستوى إيرادات الصادرات خلال السنوات القليلة القادمة، لكن سيتعرض للإنهاك خلال العقد القادم على الأقل، مما سيضطر معه صناع القرار في الجزائر ليس فقط إلى إدخال إصلاحات جذرية على الاقتصاد الوطني، بل ستطال هذه الإصلاحات أيضا السياسة الخارجية الجزائرية في بعديها الاقتصادي والسياسي، لتخفيف العبء الذي سيسببه التراجع الكبير في إرادات صادرات الهيدروكربونات.
وعلاوة على ما سبق فإن المرحلة السياسية الانتقالية التي تمر بها البلاد ستقيد أيضا من قدرة الرئيس في اتخاذ قرارات سياسية كبيرة في المجال الخارجي. كما أن عقيدة الجيش الجزائر بعدم التدخل العسكري يضعف أيضا مناورات الدبلوماسية الجزائرية في القضايا المضطربة التي تتطلب حضورا عسكريا معينا. فلا يمكن أن تنجح الدبلوماسية وحدها في تحقيق أهداف السياسية الخارجية وتعزيز نفوذ الدولة دون تدخل عسكري ولو في مستويات محدودة.
وأما على المستوى الإقليمي، فلم يحدث حتى الآن تحول عميق في هندسة النظام الإقليمي المغاربي من شأنه خلخلة توازن القوى القائم لصالح دولة بعينها. إن الكثير من المجالات التي تريد أن تستعيد الجزائر نفوذها فيها، تعيش اضطرابا كبيرا، وملأت قوى أخرى الفراغ الذي تركته الجزائر خلال السنوات الماضية، مثل ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء. ففي ليبيا مثلا، لا تستطيع أن تكون الجزائر فاعلا أساسيا أو صاحب مبادرة، بل ستساير استراتيجيات الدول الأخرى ومنها تركيا. ومن العوامل التي ستضعف تأثير الجزائر في الساحة الليبية افتقادها لرؤية واضحة لحل هذه الأزمة، ولا يزال يسيطر على أهداف الجزائر هاجس محاصرة المغرب أو إضعاف نفوذه، كما هو شأن سياستها الخارجية في منطقة الساحل والصحراء. مع ذلك فقد تراجع هذا التأثير نسبيا منذ 2011، وبدأت الجزائر تنكفئ على نفسها، وتركز على مشاكلها الداخلية ومواجه المخاطر التي تهدد أمنها الوطني.
تشكل التحديات الأمنية بالجوار الإقليمي للجزائر أحد عوائق طموحاتها في المنطقة. وسيكون همها الأساسي خلال السنوات الأخيرة حماية أمنها الوطني وتدبير التحديات الأمنية عبر حدودها الطويلة مع ست دول، وهي المغرب وتونس وليبيا وموريتانيا ومالي وتشاد. قامت الجزائر منذ 2013 بتحصين حدودها مع دول الجوار بحواجز حدودية (سياجات وخنادق) وحولتها إلى مناطق عسكرية تحت إشراف وزارة الدفاع بدل وزارة الداخلية. ويكمن الهدف الأساسي لتحصين الجزائر لحدودها وعسكرتها في محاربة التهديد الأمني للجماعات المسلحة العابرة للحدود.[18] إن مراقبة هذه الحدود الطويلة سهلة الاختراق ستشكل عبئا أمنيا وماليا باهضا على الجزائر خلال السنوات القادمة مما سيعيق أي طموح لها بالانشغال بالقضايا الإقليمية الشائكة. وسيكون من مصلحة الجزائر تحقيق الاستقرار في ليبيا، لأن من شأن ذلك تخفيف العبء الأمني والمالي عليها.
خاتمة
يتشكل النظام المغاربي الفرعي من دول متساوية الوزن نسبيا، ولا توجد دولة كبيرة يمكن أن تفرض نفسها كقوة مهيمنة إقليميا، أو على الأقل كدولة محورية. المغرب والجزائر قوتان متساويتان ومتماثلتان تقريبا، لذلك لا يمكن أن يحقق أي منهما شكلا من أشكال الهيمنة الإقليمية. ولا تستطيع الجزائر-حتى وإن شهدت تغييرا سياسيا عميقا في المستقبل- أن تحدث فارقا كبيرا مع المغرب سواء على الصعيد الاقتصادي أو العسكري من شأنه الإخلال بتوازن القوى القائم. لذلك يبقى الخيار العقلاني الذي تفرضه الظروف الموضوعية المتعلقة بقدرات الدولتين (الاقتصادية والعسكرية والديموغرافية والجغرافية…) هو الحفاظ على توازن القوى بينهما لأطول مدة ممكنة.
ورغم سعي الرئيس الجديد إلى استعادة الدبلوماسية الجزائرية لحيويتها في المحيط الإقليمي، لكن سيظل سقف الأهداف لا يتجاوز استغلال الفرص التي يتيحها الوضع الحالي بالمنطقة المغاربية دون الإخلال بتوازن القوى القائم، لاسيما ما يتعلق بالعلاقات الجزائرية المغربية. وستستمر حالة التوجس وعدم الثقة في علاقات البلدين خلال السنوات القادمة.
لذلك، فإن السلوك الأمثل لكل من المغرب والجزائر خلال السنوات العشر القادمة هو تجنب الدخول في أي أزمة من شأنها توسيع الفجوة القائمة بينهما. الراجح أن سياستهما الخارجية ستظل مطبوعة بتدبير الوضع الإقليمي القائم. لكن تراجع إيرادات النفط وثقل النمو الديموغرافي على اقتصاد الدولة خلال السنوات التي تلي هذه المرحلة، سيدفع الجزائر إلى البحث عن سبل للتقارب مع المغرب بهدف تخفيف العبء الاقتصادي الذي سيتراكم عليها. إن التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين سيكون ضرورة تفرضها عوامل تتجاوز التصورات الشخصية لصناع القرار.
الهوامش
[1] تحيل عبارة ”العشرية السوداء“ بالجزائر إلى الاضطراب الأمني الكبير الذي أعقب إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية في عام 1990، وقد ذهب ضحية تلك الأحداث عشرات الآلاف من الجزائريين بين قتيل ومفقود. ولا زال شبح هذه المرحلة يرخي بظلاله على المشهد السياسي بالجزائر.
[2] REUYERS, “Algeria to give Tunisia $150 mln deposit loan – Algerian president,” February 2, 2020. https://af.reuters.com/article/libyaNews/idAFL8N2A20JJ
[3] Courier International, “Maghreb. L’armée algérienne intervient en Tunisie,” August 4, 2014. https://www.courrierinternational.com/article/2014/08/04/l-armee-algerienne-intervient-en-tunisie
[4] World Bank, “Algeria’s Economic Update,” April 2019, p.146. http://pubdocs.worldbank.org/en/351201553672386312/Algeria-MEU-April-2019-Eng.pdf
[5] World Bank, “GDP growth (annual %) – Algeria, Morocco,’ https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.KD.ZG?locations=DZ-MA
[6] World Bank, “GDP (current US$) – Algeria, Morocco,” https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.CD?locations=DZ-MA&view=map
[7] Trading Economics, “Algeria Gold Reserves,” https://tradingeconomics.com/algeria/gold-reserves
[8] UN Population Division 2012, World Population Prospects: The 2012 Revision, http://esa.un.org/unpd/wpp/index.htm
[9] United Nations Population Division, World Population Prospects 2019: Data Booklet, p.16
https://population.un.org/wpp/Publications/Files/WPP2019_DataBooklet.pdf
[10] United Nations Development Program, Human Development Report 2019 (New York: UNDP, 2019), pp.324-325. http://hdr.undp.org/sites/default/files/hdr2019.pdf
[11] World Bank, “Military expenditure (% of GDP) – Algeria, Morocco” https://data.worldbank.org/indicator/MS.MIL.XPND.GD.ZS?locations=DZ-MA
[12] Mostefa Ouki, “Algerian Gas in Transition: Domestic transformation and changing gas export potential ,” Oxford Institute for Energy Studies, October 2019, p.1.
[13] Mostefa Ouki, “Algerian Gas in Transition: Domestic transformation and changing gas export potential ,” Oxford Institute for Energy Studies, October 2019, p.7.
[14] World Bank, “Algeria’s Economic Update,” April 2019, p.146. http://pubdocs.worldbank.org/en/351201553672386312/Algeria-MEU-April-2019-Eng.pdf
[15] World Bank, “Algeria’s Economic Update,” April 2019, p.146. http://pubdocs.worldbank.org/en/351201553672386312/Algeria-MEU-April-2019-Eng.pdf
[17] Ibid.
[18] Said Saddiki, “The Fortification of the Arab States’ Borders in the Sub-Regional Contexts,”, Paix et Sécurité Internationales, num. 6, 2018, pp. 149-151.
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]
سعيد الصديقي
حصل سعيد الصديقي على الدكتوراه في القانون العام من جامعة محمد الأول بوجدة بالمغرب في مارس 2002، ويشتغل حاليا أستاذا للعلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وقد عمل بجامعة العين للعلوم والتكنولوجيا بمدينة أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة من 2012 حتى 2019. نشر خمسة كتب من ضمنها كتاب باللغة الانجليزية بعنوان (عالم من الأسوار: بنية حواجز الفصل ووظائفها وفعاليتها) وكتاب (الدولة في عالم متغير: الدولة الوطنية والتحديات العالمية الجديدة). كما نشر أيضا العديد من الأبحاث في دوريات محكمة عربية ودولية في مواضيع تتناول القضايا المعاصرة (أسوار وسياجات الحدود الدولية، السياسة الخارجية المغربية، الهجرة الدولية، قضية الصحراء الغربية، الدولة-الوطنية، التصنيف الدولي للجامعات…). حصل سعيد الصديقي على بعض المنح الدولية وأهمها منحة فولبرايت لإجراء بحث بجامعة تكساس، ومنحة زميل بحث بكلية الحلف الأطلسي للدفاع بروما. كما حصل أيضا على الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية لعام 2015.