الأبحاثالحركات الاجتماعيةنسائيات الملك: إعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والنسوية بالمغرب

برهنت المؤسسة الملكية أنها قادرة على ضبط توازن التيارات النسائية بمختلف أيديولوجياتها عبر إنتاج خليط بين "نسوية الدولةّ" وتيار "الطريق الثالث"
إلياس بوزغاية إلياس بوزغاية19/04/2024247522 min

[vc_row][vc_column][vc_column_text]

برهنت المؤسسة الملكية أنها قادرة على ضبط توازن التيارات النسائية بمختلف أيديولوجياتها عبر إنتاج خليط بين “نسوية الدولةّ” وتيار “الطريق الثالث”.

 

تحميل المقال

 

 

ملخص تنفيذي

عرف مسار الحركة النسائية بالمغرب محطات مهمة في تاريخها، طبعها التأقلم والتعايش مع المتغيرات السياسية والاجتماعية. ولعبت المؤسسة الملكية دورا محوريا في توجيه التحولات التي عرفتها هذه الحركة مما جعلها مستوعبة ومهيمنة على المشهد النسائي المغربي. تعتمد هذه الورقة على قراءة لتاريخ تطور التنظيمات النسائية بالمغرب بارتباط مع أهم التفاعلات التي حكمت علاقتها مع الدولة، منذ إقرار مدونة الأحوال الشخصية سنة 1957 إلى وقتنا الحاضر (2021)، حيث ظهرت معالم “طريق ثالث” يتسم بتراجع التقاطب الإيديولوجي مقابل هيمنة التوجه الرسمي في تشكيل صورة حقوق المرأة بالمغرب. تجادل الورقة بأن الفاعل الرسمي قد انتبه في وقت مبكر إلى أهمية الحراك النسائي واعتمد على استراتيجيات وأساليب الاحتواء من أجل رسم مشهد حقوقي واجتماعي جديد يمكن اعتباره خليطا بين “نسوية الدولة” و”الطريق الثالث”.

 

1- الحركة النسائية بالمغرب: مسار من التطور والتنوع

ترجع جذور العمل المنظم للحركة النسائية بالمغرب إلى أربعينات القرن الماضي، وقد حصل نوع من الاتفاق بين المؤرخين على تقسيم مسار النضال النسائي بالمغرب إلى 3 مراحل:

– فترة 1940 – 1970: حيث تميزت بتبعية معظم الجمعيات النسائية للأحزاب الوطنية ومحاولتها الجمع بين النضال ضد الاستعمار ودعم النساء في وضعية صعبة من خلال تقديم المساعدة الاجتماعية ودعم تعليم النساء (جمعية أخوات الصفاء أنموذجا).

– فترة 1970 – 1990: تميزت هذه الفترة باستمرار ارتباط معظم الجمعيات النسائية بأجندات الأحزاب السياسية، خاصة التيار اليساري الذي واكب التحولات العالمية بخصوص ارتفاع منسوب الاهتمام بالقضية النسائية مما شجع على إثارة مطالب نسائية متقدمة، وقد تزامن ذلك مع مرحلة بناء مؤسسات الدولة بعد حصول المغرب على استقلاله.

– فترة 1990 إلى اليوم: ساهم العامل السابق في بداية تكاثر الجمعيات النسائية خلال فترة التسعينات، حيث نجد أن 55.2% من الجمعيات تم تأسيسها خلال فترة الثمانينات وبداية التسعينات، كما عرفت هذه الفترة تراجعا في الارتباط الوثيق بين الأحزاب وفروعها النسائية من الناحية التنظيمية. وقد يكون أهم ما ميز هذه الفترة هو ظهور الصحوة الإسلامية وما تبعها من انقسام وتباين في الجسم النسائي بالمغرب.[1]

يشكل هذا المسار التاريخي لتطور الحركة النسائية بالمغرب أساسا للاعتراف بأن مفهوم “الحركة النسائية المغربية” عام وفضفاض يتفق فقط على هدف دعم المرأة وحقوقها، لكنه يحيل على طيف واسع من التيارات والتوجهات والأساليب المختلفة لتحقيق نفس الهدف.

يتكون الجسم النسائي المغربي عموما من كيانات تختلف طبيعتها حسب طبيعة العمل الذي تقوم به والتوجه الذي تتبناه، فهناك كيانات نسائية لها طابع حقوقي تعمل داخل جمعيات، وهناك كيانات تركز على الجانب الاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى نوع آخر يهتم بالجانب التنظيري والأكاديمي. ورغم التنوع في طبيعة الكيانات النسائية من حيث العمل والاختصاصات، إلا أن تصنيفها حسب توجهاتها الفكرية والإيديلوجية غالبا ما يوضع في إطار ثلاث تيارات:

أولا: التيار العلماني

من المهم الانتباه إلى أن هناك من الباحثين من يميز داخل هذا التيار بين التوجه الإشتراكي والتوجه الليبرالي[2]. لكن على سبيل الدقة واعتبارا للمستجدات الحاصلة، فإن التيار اليساري لم يعد يُظهر اهتماماته الماركسية اللينينية في نضالاته وخطاباته المعاصرة. بهذا الصدد، تقول الأستاذة والباحثة في تاريخ الحركات النسائية المغربية، لطيفة البوحسيني، إن الاتجاه الماركسي اللينيني الراديكالي للأحزاب اليسارية خفت بريقه بعد سقوط جدار برلين وأصبحت معظم النسائيات ملزمات بإعادة التفكير في مرجعيتهن، مما أدى إلى بروز مسارات متعددة لفهم الاشتراكية في السياق المغربي. وقد نُشرت جميع نقاشات وحجج الكاتبات النسويات اليساريات في مجلة “8 مارس” التي تؤرخ لتطور وتذبذبات الخطاب النسوي اليساري. تؤكد لطيفة البوحسيني على أن المناخ السياسي العام دوليا ووطنيا أصبح يميل إلى المعسكر الغربي خاصة بعد تزايد المؤتمرات الدولية التي دعيت إليها النسويات المغربيات مما أدى إلى الانفتاح التدريجي على الاتفاقيات الدولية لحقوق المرأة باعتبارها الأساس المرجعي الجديد، رغم قولها “لكن لا يمكنني القول إن هذا يمثل بديلاً للتوجه اليساري”.[3]

يشمل التيار النسائي العلماني جميع الجهود التي تستمد مرجعيتها وأدبياتها من مضامين مواثيق حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي تتبناها الأمم المتحدة، وأبرز هذه المواثيق المتعلقة بحقوق المرأة “اتفاقية سيداو”، التي صادق عليها المغرب سنة 1993. من بين الاتحادات والجمعيات التي تمثل هذا التيار: الجمعية الديموقراطية لنساء المغرب التي تأسست سنة 1985، اتحاد العمل النسائي الذي تأسس سنة 1987، الاتحاد التقدمي النسائي المنضوي تحت الاتحاد المغربي للشغل، فدرالية رابطة حقوق النساء التي كانت تسمى سابقا” الفدرالية الديمقراطية لحقوق المرأة “وتم إنشاؤها سنة 1993، ومن ضمن الشبكات والتحالفات التي تم إنشاؤها: تحالف ربيع الكرامة، شبكة أناروز لمراكز الاستماع للنساء ضحايا العنف، شبكة صوت المناصفة، شبكة مشعل، تحالف إصرار للتمكين والمساواة. وكلها تحالفات برزت كتكتلات نسائية للترافع أو الدفاع عن قضايا معينة في سياقات مختلفة.

ثانيا: التيار الإسلامي

يدخل ضمن هذا التيار كافة الفاعلين الإسلاميين في المغرب، بما في ذلك الأحزاب والحركات والجمعيات والمؤسسات والشخصيات التي تنطلق من المرجعية الإسلامية في مطالبها النسائية. ويدخل ضمن الممثلين لهذا التيار الجمعيات المنضوية تحت حزب العدالة والتمنية، وحركة التوحيد والإصلاح، وجماعة العدل والإحسان، وحزب النهضة والفضيلة وحزب البديل الحضاري والاتجاه السلفي.

وإذا كانت حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية يشكلان المحضن الرئيسي لمعظم التنظيمات النسائية الإسلامية، فإن ذلك يرجع بالأساس إلى الحركية التي أظهرها هذين الفاعلين منذ التسعينات للانخراط في الشأن السياسي مقارنة بباقي التنظيمات الإسلامية. وبذلك، تم إنشاء أول منظمة نسائية إسلامية تحت اسم “منظمة تجديد الوعي النسائي” سنة 1995 وتشكلت من عدد من الفاعلات في حزب العدالة والتنمية ومن ضمنهن بسيمة حقاوي التي ترأست المنظمة آنذاك. ورأت النور منظمة نسائية إسلامية أخرى بعد ما يقرب من 10 سنوات، حيث تأسس منتدى الزهراء للمرأة المغربية سنة 2002 بمبادرة من عدد من النساء الناشطات في نفس التنظيم السياسي. يضم منتدى الزهراء شبكة من الجمعيات من مختلف أنحاء المغرب تتشارك في أهدافها ومرجعيتها. وفي سنة 2011، تعزز حضور حزب العدالة والتنمية في المشهد النسائي من خلال تأسيس منظمة “نساء العدالة والتنمية”.

وقد احتضنت جماعة العدل والإحسان بدورها فرعًا نسائيًا تزعمته لمدة طويلة نادية ياسين، ابنة الشيخ عبد السلام ياسين، مؤسس الجماعة وصاحب كتاب “تنوير المؤمنات”، الذي يعتبر مؤطرا لأعضاء الجماعة في موضوع المرأة والإسلام. وقد شاركت الجماعة وفرعها النسائي في أحداث مهمة للدفاع عن الهوية الدينية في قضايا المرأة. من جهة أخرى، يعتبر حزب النهضة والفضيلة، المنشق عن حزب العدالة والتنمية سنة 2005، وحزب البديل الحضاري، الذي تم حله سنة 2008، وبعض الشخصيات السلفية والدينية المعروفة بالمغرب، أحد أوجه التيار الإسلامي التي لا تحظى بمكانة مهمة في المشهد السياسي لكنها تساهم أحيانا ببعض المواقف ذات التوجه المحافظ حول قضايا المرأة.

جدير بالذكر أن المتتبع لأدبيات ومواقف التيار النسائي الإسلامي سيلاحظ حجم التباين في مواقف المنتسبين لنفس التيار، وهو ما أوضحته الباحثة مريم يافوت في أطروحتها حول النسائيات الإسلاميات في المغرب[4]. فبينما يتسم التوجه السلفي بالتشدد في قضايا المرأة عموما، وبينما يحاول التوجه الحزبي النسائي ملائمة مواقفه مع ما تشهده الساحة السياسية من تحولات، يظهر توجه إسلامي ثالث يحاول ربط الجسور ورأب الفجوة بين المرجعية الإسلامية و”الكونية”.

ثالثا: التيار التوفيقي

يطلق عليه أيضا “اتجاه الطريق الثالث”، ويجد هذا التيار صداه أساسا من خلال المؤلفات الأكاديمية التي تحاول الحفاظ على مسافة الحياد من كل التيارات السياسية والإيديولوجية السائدة. ورغم أنه سيتم التركيز عليه في المحور القادم في علاقته بالدولة المغربية، إلا أنه يمكن الاكتفاء بتسجيل ملاحظتين: الأولى تتعلق بالسياق التاريخي لهذا المفهوم، فرغم انتماءه في الأصل إلى المجال السياسي والاقتصادي بما يفيد التوفيق بين التطرف الاشتراكي والتطرف الرأسمالي في نهاية القرن العشرين، إلا أنه تم تبنيه واعتماده في المجال النسائي أول مرة من طرف الباحثة المغربية أسماء المرابط كمفهوم يحيل على التوفيق بين التطرف النسائي الإسلامي والتطرف النسائي العلماني من خلال التأصيل لعدم التعارض بين القيم الإسلامية والقيم “الكونية” لحقوق الإنسان عبر إعادة قراءة النصوص الدينية منوجهة نظر نسائية.[5] وقد امتد هذا الفكر ليجد صداه بعد ذلك في كثير من دول العالم.

الملاحظة الثانية تتعلق بآليات عمل هذا التوجه، فبينما يعتمد معظم الإسلاميين على العمل في إطار المجتمع المدني والمرافعة والضغط السياسي ضد كل ما يمس الهوية الإسلامية، غالبا ما يتخذ اتجاه “الطريق الثالث” من المنابر الفكرية والأكاديمية منصة لإيصال أفكاره التي عادة ما تعتمد على التأصيل والتفصيل مع معالجة القضايا النسائية من منطلق إسلامي دون إغفال أبعاد ومقاربات أخرى. وقد برز هذا التوجه خاصة بعد انجلاء غبار المعارك النسائية التي شهدت شدا وجذبا بين الإسلاميين والعلمانيين ابتداء من سنة 2005.

 

2- تجاذبات النسائيات ودور الدولة في تحجيم التصعيد النسائي: من حملة “المليون توقيع” إلى مدونة الأسرة

عرفت الحركات النسائية محطات نضالية مهمة توجت بمكتسبات ذات أثر كبير على واقع المرأة المغربية. هذه المحطات لا تؤرخ لمنجزات الحركة النسائية فقط ولكن أيضا لمراحل من التقارب والتباعد بين مكوناتها. رغم أن الضغط النسائي والمطالبة من أجل الإصلاح ابتدأت فعليا بعد الاستقلال، إلا أن “حملة المليون توقيع” شكلت أولى محطات الاصطدام بين أبرز تيارين في الحركة النسائية. ارتكزت هذه الحملة، التي أطلقها “اتحاد العمل النسائي” في مارس سنة 1992، على جمع توقيعات أكثر من مليون مواطن ومواطنة لجعلها عريضة شعبية يتم رفعها للسلطات من أجل الضغط في أفق تغيير مدونة الأحوال الشخصية التي تم إقرارها سنة 1957. ومعلوم أن مدونة الأحوال الشخصية أحاطتها هالة من القدسية على اعتبار أنها مستمدة من الفقه المالكي المعتمد على القرآن والسنة فيما يخص تنظيم حقوق وواجبات الرجال والنساء في الأسرة.[6]

على إثر ذلك، عين الملك الحسن الثاني لجنة من العلماء وخبراء القانون لإدخال تعديلات على مدونة الأحوال الشخصية، وفي شتنبر من سنة 1993، وافق الملك فقط على النقاط التي كانت موضع إجماع وتم إقرار التعديلات التي اعتبرتها الناشطات النسائيات سطحية بحكم أنها لم تمس القضايا الرئيسية بما في ذلك الوصاية الزوجية وتعدد الزوجات والطلاق.

على الرغم من محدودية الإصلاحات، أصبح بالإمكان تسجيل ملاحظتين: أولا، انتزاع الشرعية من العلماء غير التابعين للقصر وتنبيههم إلى عدم التجرؤ للحديث باسم الإسلام نظرا لاقتصار الأمر على الملك بحكم صفته أميرا للمؤمنين. ثانيا: رغم أن الإصلاحات لم تكن مرضية بالنسبة للناشطات النسائيات، إلا أنهن اعتبرنها مهمة من أجل إنجاح جهود الإصلاح المستقبلية بحكم أن التعديلات الطفيفة لها دلالة رمزية تتمثل في أن المدونة لم تعد نصًا غير قابل للمس والتغيير.[7]

في انتظار ظروف أفضل لتجديد مطالبها، عززت الحركة النسائية تواجدها في الساحة السياسية على مستوى الكم والكيف، وفي سنة 1997 سيقدم الوزير سعيد السعدي، عن حزب التقدم والاشتراكية، مشروع قانون سمي ب”الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، وتضمنت الخطة توصيات بخصوص تغيير مدونة الأحوال الشخصية مما أثار حفيظة التيارات الإسلامية والمحافظة مرة أخرى. من المهم الإشارة إلى أن الخطة جاءت في سياق أول حكومة يسارية متحمسة (حكومة التناوب) بقيادة حزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، الذي حاول التركيز على إنجاز الإصلاح في منأى عن علماء الدين أو استشارة القصر، ولذلك لم تكن الخطة موضع ترحيب من طرف العديد من الفرقاء السياسيين. في مقابلة معها، أكدت بسيمة حقاوي، الوزيرة السابقة عن حزب العدالة والتنمية لوزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، أن المشكل في ذلك الوقت لم يكن الخطة في حد ذاتها، بقدر ما كان في الأسلوب الإقصائي الذي اعتمدته الحكومة برفضها إشراك كل الأطياف فيه.[8]

عرفت بداية القرن 21 توترا حادا بين النسائيات والتيارات المحافظة حول ما سمي ب”المشروع المجتمعي”، حيث تم تشكيل شبكة معارضة تسمى “المجموعة الوطنية لحماية الأسرة المغربية”، التي ادعت أن الخطة تمثل تهديدًا للأسرة المغربية وتماسكها، وبجانب المسيرة المليونية المعارضة للخطة في الدار البيضاء يوم 12 مارس 2000، قادت التيارات الإسلامية حملة معارضة في المساجد ووسائل الإعلام والأماكن العامة وحتى بدخول بيوت المغاربة، كما شملت المعارضة كذلك وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ورابطة علماء المغرب حيث اعتبروا أن مثل هذا الإصلاح باطل لعدم استشارة العلماء بشأنه ولإغفاله الرمزية الدينية للملك الذي يحمل الشرعية الدينية الوحيدة لإجراء مثل هذه الإصلاحات. تؤكد ربيعة الناصري في هذا الصدد أنه “قد تمت الاستعانة بالإسلام كوسيلة لاستبعاد أحزاب المعارضة السياسية، التي اتُهمت بأنها مستوردة وعلمانية وبالتالي غير شرعية”[9].

فشلت الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية بعد تعاظم الحملات الرافضة لها وعرفت السنوات التي أعقبت المسيرتين نقاشات حادة ومستفيضة حول قضية المرأة في المجتمع المغربي، حيث ظهرت بعض معالم التوافق والتعارض بين التيارين النسويين: فبينما اتفقت جميع النسويات (الإسلاميات والعلمانيات) على أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمرأة يجب أن تتحسن، اختلفن في المنهجية والمرجعية المستخدمة في هذه العملية،وهو ما أشارت إليه بسيمة حقاوي بقولها “إن أهم نقطة تشنج واختلاف واضح كانت تتعلق بالمرجعية. فأصحاب “الخطة” لا يقبلون رفع المرجعية الإسلامية فوق المرجعية الدولية”[10]. وعليه، أمام احتدام الجدل وتجاهل المحافظين والتقدميين لوجود سلطة دينية في البلاد تجسدها إمارة المؤمينين[11]، لم يكن هناك من مخرج سوى التدخل الملكي وإعمال التحكيم وذلك عبر خطاب ملكي يوم 27 أبريل 2001، انتهى بتنصيب أعضاء اللجنة الاستشارية الخاصة بمدونة الأحوال الشخصية والتي ضمت علماء دين وأكاديميين وخبراء في القانون وناشطات حقوقيات[12]، وهو ما اعتبر مقاربة تشاركية في إطار التشاور والتوافق والاجتهاد الجماعي توج بإصدار مدونة الأسرة سنة 2004 باعتبارها “ثورة هادئة” جاءت بمكتسبات قانونية مهمة لصالح المرأة.

 

3- هندسة الدولة للمشهد النسائي: من مدونة الأسرة إلى “الطريق الثالث”

يمكن اعتبار إقرار مدونة الأسرة سنة 2004 تتويجا لمسار التقاطب الحاد الذي عرفته الساحة النسائية بالمغرب وبداية مسار آخر من التدافع الأقل حدة. وقد لعبت المؤسسة الملكية دورا أساسيا في تأطير النقاش حول قضايا المرأة في المغرب من خلال مستويين:

أولا: من  خلال إدخال العنصر الديني باعتبار الملك أميرا للمؤمنين ورئيسا للدولة، وهو الشخص الوحيد المخول له دستوريا القيام بمهمة التحكيم بصفته الممثل الأسمى للأمة كما جاء في خطابه في ذكرى ثورة الملك والشعب سنة 2003. وهكذا، ساهمت مدونة الأسرة الجديدة في “إضفاء الشرعية على حكم الملك بخلفية إسلامية، أو بعبارة أخرى، من خلال رؤية جديدة للقيم الإسلامية حيث لم تعد العلمنة خيارًا للإصلاح”[13]. ونتيجة لذلك، بدأت الحركات النسوية العلمانية في تغيير “إستراتيجيتها عبر تسليط الضوء على الأداة الإسلامية المتأصلة في الاجتهاد كأساس محتمل للنهوض بحقوق المرأة في بلد مسلم مثل المغرب”[14]وأصبح الإطار الأساس الذي يحكم الإصلاحات والتعديلات هو المرجعية الإسلامية التي أكدها الملك حين أعلن “لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله”، واستنادا إلى أن هذا يتم ب”الأخذ بمقاصد الإسلام السمحة في تكريم الإنسان والعدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف، وبوحدة المذهب المالكي والاجتهاد”.[15]

ثانيا: شكلت قضية المرأة، وما تبعها من تقاطبات إيديولوجية، مناسبة لبروز إحدى أهم الاختصاصات الحصرية لمؤسسة إمارة المؤمنين، وهي رسم حدود الاجتهاد في الدين. فرغم الحملات القوية التي شنها التيار المحافظ لرفض “الخطة” عبر استنكار معظم بنودها على أساس ديني، إلا أنه من داخل المرجعية الدينية تم توسيع دائرة الاجتهاد لتتوافق مع كثير من مواد الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وهو الأمر الذي أكدته نزهة الصقلي وزيرة المرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية السابقة، المنتمية لحزب التقدم والاشتراكية، مشيرة إلى أن إقرار المدونة عمل على دفع الإسلاميين إلى تجاوز مواقفهم الدفاعية والدوغمائية للتفكير أكثر في الإسلام كمصدر مرجعي له تفسيرات أكثر انفتاحا على حقوق المرأة[16]. من المهم أيضا استحضار أن تفجيرات الدار البيضاء سنة 2003 لعبت دورا مهما في تراجع الحماس الديني للحركة الإسلامية، خاصة بتحميلهم المسؤولية المعنوية في نشر فكر يغذي الإرهاب ويبرر العنف.

بناء على ما تقدم، أصبح بالإمكان الحديث عن تراجع الزخم النسائي المؤدلج وقدرة الدولة على الجمع بين الدين وحقوق الإنسان كأحد مظاهر الاستثناء المغربي الذي عمل على “تأنيث الإسلام وأسلمة النسوية”[17]، حيث لعب السياق الدولي والوطني والاجتهاد دورا محوريا في تحقيق ثلاثة أهداف لصالح الدولة: أولا، إلجام التزمت الإيديلولوجي. ثانيا، إحكام قبضة الدولة على المشهد النسائي. ثالثا، تحسين صورة المغرب في مجال حقوق المرأة.

ويمكن القول أن أحداث 11 شتنبر 2001 وتفجيرات 16 ماي سنة 2003، وأحداث “الربيع العربي” سنة 2011، بالإضافة إلى أحداث أخرى متفرقة، شكلت في كل مرة فرصة للدولة لتأكيد قدرتها على التعامل كسلطة عليا مع كل المستجدات. فإذا كانت الأحداث التي سبقت مدونة الأسرة قد عززت الخلاصات التي أشرنا إليها سابقا، فإنه منذ سنة 2005، تراجعت حدة الصراع الإديولوجي  لكي تظهر معالم مشهد نسائي جديد اتسم بصعود توجه سيادي ينحو إلى تثبيت معالم “نسوية الدولة” و”طريق ثالث” من خلال “جندرة” الحقل الديني وتعزيز حقوق المرأة. في ما يلي مناقشة لأبرز المحطات التي توضح كيف هيمنت الدولة على المشهد النسائي من خلال أربعة استراتيجيات رئيسية:

 

أ- تأنيث المؤسسة الدينية الرسمية: “نسائية الدولة”

يمكن إدراج عبارة “جندرة الحقل الديني” و”نسائية الدولة” في إطار المشروع العام الذي أطلقته الدولة منذ سنة 2004 والمسمى “إعادة هيكلة الحقل الديني”. وقد تجلى هذا التوجه أساسا في عملية تأنيث المؤسسة الدينية الرسمية، حيث ظهرت أولى إرهاصاته في تواجد الدكتورة فريدة زمرد بدار الحديث الحسنية كأول أستاذة جامعية بهذه المؤسسة سنة 2001، وفي استدعاء الدكتورة رجاء ناجي مكاوي لتقديم الدرس الحسني أمام الملك سنة 2003. وفي سنة 2004، تم تنصيب فاطمة القباج، خريجة القرويين سنة 1957، بالمجلس العلمي الأعلى الذي يشكل قمة الهيكلة التراتبية لمؤسسة العلماء بالمغرب، وتم إلحاق ستة وثلاثين امرأة (عالمات) بمختلف المجالس العلمية المحلية، كما تم إحداث “خلية شؤون المرأة وقضايا الأسرة” في كل مجلس علمي محلي من أجل الإرشاد والتوجيه.[18]

بجانب المجالس العلمية، تم تعزيز الحضور النسائي في باقي مؤسسات الدولة ذات التوجه الديني، فقد تم إنشاء معهد محمد السادس لتدريب الأئمة والمرشدين والمرشدات، الذي يعتبر، إلى جانب مؤسسات أكاديمية أخرى مثل دار الحديث الحسنية والرابطة المحمدية للعلماء (هذه الأخيرة تضم مركزا خاصا بالدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام)، خزانا لتخريج باحثين وعلماء يحافظون على التوجه الديني الرسمي الذي يتمثل في الإسلام السني والعقيدة الأشعرية والفقه المالكي وتصوف الجنيد، وهو ما يضمن النهج الوسطي والمعتدل في فهم وتأصيل حقوق المرأة في الإسلام.[19] وفي إطار تأنيث المهن، قرر المغرب في يناير 2018، السماح للمرأة بمزاولة مهنة “عدل” بتعليمات ملكية وفتوى علمية من المجلس العلمي الأعلى (هيئة دينية رسمية)، مما يعكس إرادة ملكية لتعزيز مسألة المساواة وفي نفس الوقت تأكيدا لتجاوزه الإطارات التي تعمل من داخلها الحركات النسائية.

ب- تصدر المشهد الحقوقي والخدماتي لصالح النساء

على المستوى الحقوقي، برز دور الدولة، في شخص المؤسسة الملكية، كفاعل رئيسي في التحكم بمستوى امتثال المغرب للمواثيق الدولية المرتبطة بحقوق المرأة. فبعد أن صادق المغرب على الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو” سنة 1993 بتحفظات على أساس المرجعية الدينية، وجه الملك في دجنبر 2008 رسالة إلى المنتظم الدولي في الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان تضمن متنها “سحب المملكة المغربية التحفظات المسجلة بشأن الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة التي أصبحت متجاوزة، بفعل التشريعات المتقدمة، التي أقرتها بلادنا”. لم تمر سوى ثلاث سنوات لكي تترجم هذه الرسالة على أرض الواقع بالإعلان في الجريدة الرسمية عن رفع المغرب تحفظاته عن المادتين 9 و16 من اتفاقية ‘سيداو’ في الأول من شتنبر 2011، وهي آخر سنة من عمر حكومة عباس الفاسي، وهو ما أثار سخط الإسلاميين معتبرين ذلك “عملية تهريب تم تنفيذها في جنح الظلام[20]” وأن إقرار الاتفاقية من شأنه أن يمس استقرار الأسرة المغربية وهويتها وثوابتها الوطنية[21]. ولسخرية القدر، اضطر الإسلاميون، من موقع الحزب الأغلبي، لإقرار اعتماد البروتوكول الاختياري لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة[22] سنة 2015 مؤكدين بذلك عجزهم عن معارضة القرارات السيادية واستعدادهم للتأقلم مع إكراهات الواقع السياسي بطريقة براغماتية. بذلك يمكن القول أن الدولة سحبت البساط من كل الفاعلين الحقوقيين وانتصرت لتأويلها حصريا لما تُقدم عليه.

على الصعيد الخدماتي، شكلت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أحد أبرز المبادرات التي تسعى للنهوض بأوضاع المجتمع، وخاصة النساء باعتبارهن من ” الفئات الضعيفة”، وفي هذا الصدد، اعتبرت التنسيقية الوطنية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية أن تعزيز الحقوق الإجتماعية والإقتصادية للمرأة تعد في صميم الأهداف الرئيسية للمبادرة[23]، وقد سبق للمبادرة أن دعمت مجموعة من الجمعيات التي تؤطر الخدمات الإرشادية للنساء والتعاونيات التي تمارس فيها النساء أنشطة مدرة للدخل. علاوة على ذلك، تلعب مؤسسة التعاون الوطني، التي أسسها الملك الراحل محمد الخامس وترأست مكتبها المركزي الأميرة لالة عائشة، دور الشريك الأساسي لوزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة حاليا. بجانب ذلك، هناك عدة مؤسسات تابعة شرفيا لأفراد من العائلة الملكية تقوم بتقديم بعض الخدمات الاجتماعية التي تستفيد منها فئة عريضة من النساء، كما أن مجموعة من الصناديق المخصصة لتعزيز الخدمات الاجتماعية يشرف عليها أو يعطي انطلاقتها الملك، وقد كان آخرها صندوق جائحة كورونا ومشروع قانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية المتعلق بتعميم منظومة الحماية الاجتماعية في أفق 2025.[24] على الصعيد الأكاديمي، يمكن ملاحظة تسابق العديد من المؤسسات والجمعيات للحصول على الرعاية السامية للملك محمد السادس لتنظيم فعالياتهم الثقافية، وهو ما تستمد به صفة الشرعية الرسمية مقابل الانتماء الإيديولوجي المحتمل. بمثل هذا النهج، تؤكد الدولة مرة أخرى أنها وإن لم تكن متصدرة تماما لكل المبادرات الداعمة لحقوق النساء، فإنها لا تنافس الفاعل الحكومي والمجتمع المدني في هذا المجال فقط وإنما تضبط إيقاع سيره على كل المستويات أيضا.

ج- التحكيم والتوازن في القضايا الخلافية

بتتبع المسار التاريخي، يمكن رصد تسلسل بعض الأحداث التي برز فيها التقاطب الإيديولوجي والذي حُسم في الأخير بتحكيم ملكي حافظ على نوع من التوازن بين التيار العلماني والإسلامي والهيمنة لصالح السلطة الرسمية. بهذا الصدد، يمكن استحضار واقعة إفتاء الشيخ عبد الرحمن المغراوي بخصوص إمكانية زواج بنت التسع سنوات سنة 2008 وهو ما أثار سخطا عارما من طرف التنظيمات النسائية. فما كان للمجلس العلمي الأعلى التابع للمؤسسة الملكية إلا أن أصدر بيانا وصف فيه المغراوي بشخص “معروف بالشغب والتشويش على ثوابت الأمة ومذهبها”[25]. أما وزارة الداخلية فلم تنتظر صدور الحكم القضائي وبادرت إلى إقفال دور القرآن التابعة للمغراوي. تكرر فعل الحسم والتحكيم في قضية الإجهاض التي أثارتها مجموعة من الفعاليات النسائية الليبرالية سنة 2012 بعد رسو سفينة هولندية (نساء على الأمواج) تدعوا النساء إلى الإجهاض الآمن على متنها، مما أثار موجة من الاحتجاج والاستهجان خلف جدلا مجتمعيا بين مؤيد ومعارض. وقد حُسم الأمر في الأخير بتحكيم ملكي من خلال تكليف لجنة مؤلفة من وزير العدل والحريات ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان لإجراء استشارات موسعة في الموضوع للبت فيه، وفيما بعد تم نشر بيان للديوان الملكي يشير إلى أن نتائج هذه الاستشارات تُفيد بأن “الأغلبية الساحقة تتجه إلى تجريم الإجهاض غير الشرعي، باستثناء بعض الحالات”.[26]

بجانب سياسة التحكيم، عملت المؤسسة الملكية على نهج مقاربة تسعى لتحقيق نوع من التوازن بين القوى الفاعلة في المجتمع. وقد شكلت مطالب الحركات النسائية من أجل صياغة الدستور الجديد إبان حراك “الربيع العربي” سنة 2011 فرصة أخرى لتأكيد هذا النهج. فبينما برزت مطالب تعزيز حقوق المرأة والمساواة في مذكرات التيار النسائي العلماني،[27] برزت مطالب أخرى للتيار الإسلامي تجلت في تقوية مؤسسة الأسرة وتماسكها.[28] وعلى سبيل تحقيق التوازن بين المطالب المختلفة، تمت الإشارة في الدستور إلى المساواة بين الجنسين في الفصلين 19 و164، وعلى أساسهما تم التنصيص على إحداث هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز.[29] بالمقابل، تمت الإشارة أيضا إلى أهمية الأسرة والحفاظ عليها في الفصلين 32 و169 من الدستور، وعلى إثر ذلك نص الدستور على إحداث المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة من خلال مشروع القانون رقم 14-78[30]. بهذه الطريقة، أصبح بالإمكان إرضاء كل الأطياف النسائية سواء تحققت المطالب أم لم تتحقق في أرض الواقع.

د- الحفاظ على سياسة الالتباس والقراءات المفتوحة

جدير بالذكر أن عددا من المبادرات ومشاريع القوانين التي تهدف إلى تحسين وضعية المرأة لم تر النور رغم التنصيص عليها رسميا. فإحداث الهيئتين السابقتين (هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة) على سبيل المثال لم يجد طريقه إلى الواقع رغم مرور حوالي 10 سنوات من إقرار دستور 2011، وهو ما قد يشير إلى وجود رغبة في ترك الأمر ملتبسا على الفاعلين خاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع ذات حساسية وصعوبة في التنزيل. فالفصل 19 من الدستور يصرح بأن الرجل والمرأة يتمتعان “على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية”، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”[31]. في هذا الفصل يظهر الالتباس أو ما قد يسميه البعض “تناقض” بحكم أن المساواة، كما تنص عليها المواثيق الدولية، قد تختلف مع المساواة التي تنص عليها توابث المملكة التي من ضمنها الإسلام[32].وعليه، فإن المُشرع يسكت عما يمكن أن يفيد بصريح العبارة عن سمو إحدى المرجعيتين على الأخرى لكي يبقى الغموض والالتباس سيد الموقف.

هذا ما يمكن استخلاصه في قضيتين: مسألة المساواة في الإرث وقضية العفو عن الصحفية هاجر الريسوني. فمطلب المساواة بين الجنسين في الإرث، أو على الأقل تجديد النقاش حوله، يصطدم بعائق رد الفعل المجتمعي المحافظ والرافض بشدة لهذه الخطوة، وبالتالي ينعكس على سياسة الدولة التي تميل إلى ترك الأمر بدون حسم نظرا لحساسية الموضوع وتجنبا لأي صدام مجتمعي وتفاديا للتعقيدات التي يمكن أن تشوب تنزيل تعديلات من هذا النوع. وتبدو قضية العفو عن الصحفية هاجر الريسوني[33] شاهدا على قدرة الدولة على اللعب بحبال القوانين، حيث أنها استطاعت توظيف القانون الذي يجرم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج (الفصل 490 من القانون الجنائي) لصالحها في تصفية حسابات سياسية والزج  بالصحفية هاجر الريسوني في السجن، لتعود مرة أخرى إلى منحها عفوا ملكيا يندرج “في إطار الرأفة والرحمة المشهود بها لجلالة الملك، وحرص جلالته على الحفاظ على مستقبل الخطيبين اللذين كانا يعتزمان تكوين أسرة طبقا للشرع والقانون، رغم الخطأ الذي قد يكونا ارتكباه، والذي أدى إلى المتابعة القضائية.”[34]. ويمكن اعتبار هذا الأمر تكتيكا سياسيا على حد تعبير الباحث محمد مصباح، حيث لم يتم إلغاء القانون 490، رغم دعوات الجمعيات النسائية لإلغاءه، وأدى دوره في ردع المعارضين وأصحاب الرأي ولو كانوا محسوبين على التيار الإسلامي[35].

عموما، أدت هذه الاستراتيجيات أدوارا مهمة لتحقيق مزيد من التحكم والسيطرة على المشهد النسائي بالمغرب لصالح النظام. ورغم أن ذلك قد يكون ساهم في تهميش الحركات النسائية ودورها في التعبئة الاجتماعية المباشرة لصالح النساء، إلا أنه حافظ على نوع من التوازن والاستقرار المجتمعي تحت شعار إيجاد “طريق ثالث” يمزج بين التقاليد والحداثة، العلمانية والإسلام، الدين والنسائية.

 

4- “طريق ثالث” أم “نسوية الدولة”؟

في ضوء ما سبق، يظهر أن المشهد النسائي المغربي المعاصر يميل إلى أن يعبر عن هيمنة شاملة للدولة على حدود المطالب النسائية في إطار ما يطلق عليه “نسوية الدولة”، إلا أن هذه الهيمنة مقترنة بتوجه عام يشمل كل  الفاعلين النسائيين لتجاوز الدوغمائية الإيديولوجية وتبني منهج توافقي يطلق عليه “الطريق الثالث”[36]. رغم أن المجال لا يسمح بالاستفاضة في تعريف هذين المفهومين، إلا أننا سنحاول تقديم استقراء للعوامل التي ساعدت في تشكيل اندماج هذه الثنائية من خلال ثلاث مؤشرات.

يتعلق المؤشر الأول في تراجع الصراعات الإديلوجية لصالح ظهور مساحات أكبر للتوافق. فإذا كانت الدولة قد عملت منذ فجر الاستقلال على امتصاص التوترات الحاصلة بين تيارات الحركة النسائية، فإنها بعد مدونة الأسرة بدأت ترسي معالم “نسوية الدولة” من خلال الحرص على صنع التوافق والتوازن، وهو الأمر الذي يسعى إليه أنصار التيار التوفيقي أو ما يطلق عليه “الطريق الثالث”. يؤكد هذا الطرح كل من زكية سليم[37] وسعاد الدوادة وريناتا بيبيسيلي[38]وآيلي تريب[39] في منشورات مختلفة تتفق على أن استعمال خطاب تعزيز حقوق المرأة من طرف الدولة كان أداة في الحرب على الإرهاب من جهة ووسيلة لاحتكار الشرعية المرجعية في تدبير الشأن السياسي والاجتماعي من جهة أخرى، وأن كل ذلك يدخل في إطار تفاعلات استراتيجية بين كل الفاعلين الذين يتحركون في حدود فن الممكن السياسي. تتعزز هذه الفرضية بأطروحة آصف بيات حول “ما بعد الإسلاموية” للإشارة إلى تحول خطابات الإسلاميين وتوجهها إلى خطاب هجين يجمع بين الإسلام والديمقراطية تحت ضغط الأجواء السياسية الجديدة والمطالب الفكرية المتزايدة لتوظيف مفهوم الاجتهاد وإصلاح الخطاب الديني.

يتمثل المؤشر الثاني الذي يؤكد التقاء “نسوية الدولة” مع “الطريق الثالث” في أن هذا الأخير لا يتبنى النهج الحركي الإيديولوجي أو التعبئة السياسية كوسيلة من وسائله، وإنما ينحوا إلى العكوف على الدراسات اللاهوتية (theology) وبالضبط تلك التي تكتشف مدى توافق الدين الإسلامي مع أدبيات الحركة النسائية في محاولة لتجاوز القراءات الذكورية للإسلام وتجاوز هيمنة النموذج الغربي للنسوية الرافض للدين. وتبرز هنا الباحثة أسماء المرابط كأحد أكبر المدافعين عن هذا التوجه وتشير بهذا الصدد في حوار معها سنة 2017 إلى أن المغرب كان في “حاجة إلى تيار آخر يجمع بينهما – التيار العلماني والإسلامي – وأنا أسميه الطريق الثالث”. توضح المرابط أن هذا التيار لم يكن لينشأ لولا وجود إرادة سياسية سامية (إشارة إلى الملكية) وأنه لا يجب أن نسميه بالضرورة “نسوية الدولة” وإنما نسوية للإرادة السياسية التي جعلتنا ننتج قوانين منفتحة على القانون الدولي والمرجعية الإسلامية.[40]

يكمن المؤشر الثالث في كون “الطريق الثالث” يحظى بجاذبية وترحيب ليس فقط من طرف الدولة وإنما أيضا من طرف شريحة واسعة من الجيل الناشئ. فهو من جهة، تيار تعبر عنه شخصيات ومؤسسات غير مرتبطة بالضرورة بأي جهة سياسية قد تمثل تهديدا أو منافسة للدولة، كما أنه يتوافق مع النظام في هدف تحقيق التوازن بين مطالب التحديث من خلال القوانين “الكونية” ومطالب التمسك بالمرجعية الإسلامية كأساس لأي اجتهاد أو إصلاح. من جهة أخرى، يحظى خطاب هذا التوجه بجاذبية لدى الشباب الذين يبحثون عن التصالح بين قيم الحرية والمساواة والعدالة والقيم الإسلامية السمحة التي تشبعوا بها في تنشئتهم. أكثر من ذلك، تتمثل جاذبية هذا التيار في كونه قادرا على الانفتاح على التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي. وهو الأمر الذي تتبعته دوريس جراي وحبيبة بومليك في أعمال كل من فاطمة المرنيسي (التي صاغت عبارة الأمة الرقمية – مجتمع المؤمنين – للإشارة إلى مجتمع يتجاوز الحدود الإقليمية والوطنية لأنه متصل بالفضاء السيبراني)، وأسماء لمرابط، وأمينة ودود اللتين تستخدمان تقنيات الاتصال الجديدة للترويج لأفكارهن والتواصل مع الجماهير في جميع أنحاء العالم.[41]

في الأخير، يمكن القول أن المشهد النسائي المعاصر بالمغرب هو نتاج لتفاعل التيارات الإيديولوجية في علاقتها مع بعضها البعض ومع الفاعل الرسمي الذي برهن على قدرته على إنتاج خليط بين “نسوية الدولةّ” وتيار “الطريق الثالث” على اعتبار استمرار النظام في اعتماد نفس أساليب الضبط والتوازن المذكورة آنفا، وعلى اعتبار أن نهج الدولة يتوافق ولا يصطدم مع خصائص خطاب “الطريق الثالث” كما حددناها في هذه الدراسة.

 

الهوامش:

 [1]- جميلة، المصلي. “المنظمات النسائية بالمغرب المعاصر. قراءة في التجربة”. ورقة قدمت في مؤتمر “دور المرأة العربية في التنمية المستدامة”. ARADO. 2008. ص. 175

[2]– انظر على سبيل المثال جميلة مصلي. المنظمات النسائية في المغرب المعاصر. اتجاهات وقضايا. مركز الجزيرة للدراسات. الدوحة. قطر. 2013

[3] – مقابلة من إجراء الباحث مع لطيفة البوحسيني. يوم  9فبراير 2018. الرباط.

[4]– انظر أطروحة الدكتوراه لمريم يافوت بعنوان:

“Meriem, Yafout. Femmes au sein des mouvements islamistes :facteur de modernisation”: (https://www.academia.edu/426198/YAFOUT_Meriem_Femmes_au_sein_des_mouvements_islamistes_facteur_de_modernisation).

[5] – انظر: منتصر حمادة، 2019، “أسماء المرابط: خيار ثالث في قراءة قضايا المرأة المسلمة”. (https://aldar.ma/30085.html).

[6]  – انظر: حوريّة نياطي، 2016، التدبير السياسي لإصلاح قانون الأسرة بالمغرب. (https://cutt.ly/3vKNYcl)

[7] – Fatima Sadiqi. “The Central Role of the Family Law in the Moroccan Feminist Movement”.  British Journal of Middle Eastern Studies. 35(3). Routledge, December 2008, pp: 325–337. P. 331

[8]– مقابلة من إجراء الباحث مع بسيمة الحقاوي، يوم 25 شتنبر2017. الرباط

[9]– RabéaNaciri. “The Women’s Movement and Political Discourse in Morocco.UNRISD Occasional Paper no. 8.Geneva: UNRISD.1998. P. 6

[10] – بسيمة الحقاوي. “الفاصل بين مشروع الخطة ومدونة الأسرة”. فصل في الكتاب الجمعي ثورة هادئة من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة. منشورات زمان. مطبعة النجاح الجديدة. ص. 52

[11]– حاول عبد الرحمن اليوسفي تشكيل لجنة تحت غطاء التوافق الوطني لكنها تخفي هدف التمكين لوجه نظر التقدميين عبر تقزيم دور إمارة المؤمنين (وحصرها في عرض نتائج اللجنة على الملك) وإقصاء الإسلاميين والعلماء

[12]– من ضمن 17 شخصية التي تم تعيينها في اللجنة ، تواجدت ثلاث شخصيات نسائية هي زهور الحر ورحمة بورقية ونزهة كسوس

[13]– Léon Buskens, “Recent debates on family law reform in Morocco: Islamic law as politics in an emerging public sphere”. Islamic Law and Society 10/1 (2003), pp. 70–131). P. 83

[14]– Alexandra Pittman and RabéaNaciri.”Winning women’s rights in Morocco: cultural adaptations and Islamic family law“, in Gaventa, John, and Rosemary McGee.Citizen Action and National Policy Reform: Making Change Happen. London: Zed, 2010. P. 176

[15]– انظر خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 2003-2004

[16]– مقابلة مع نزهة الصقلي. يوم 15 نونبر 2017. الدار البيضاء

[17]– Zakya, Salime. Between Feminism and Islam.Human Rights and Sharia Law in Morocco. Minneapolis: University of Minnesota Press. 2011

[18]– محمد بوشيخي. “تطور المسألة النسائية بالمغرب: الديني والسياسي في الصراع حول قانون الأسرة”. فصل في الكتاب الجماعي النسوية الإسلامية والجهاد من أجل العدالة. من ص 283 إلى ص 321. مركز المسبار للدراسات والبحوث. دبي. مطابع المتحدة للطباعة والنشر. 2012

[19]– Baylocq, Cédric, et al. “Spreading a ‘Moderate Islam’? Morocco’s New African Religious Diplomacy.” AfriqueContemporaine, vol. No 257, no. 1, 2016, pp. 113–28.

[20]– حوار مع أحمد الريسوني منشور في جريدة التجديد يوم الجمعة 07 أكتوبر 2011

[21]– بيان منتدى الزهراء حول رفع تحفظات المغرب على المادة 16 من اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، الرباط، 29 شتنبر 2011

[22]– تمت إضافة هذا البروتوكول إلى المادة 2 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة عام 2000 لفرض إخضاع الدول الأطراف للاستجواب في حالة تلقي لجنة سيداو بلاغات مقدمة من أفراد أو مجموعات من الأفراد يدعون أنهم ضحايا انتهاك لحقوقهم بموجب الاتفاقية.

[23]– انظر: التنسيقية الوطنية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، “تعزيز الحقوق الإجتماعية والإقتصادية للمرأة في صميم الأهداف الرئيسية للمبادرة”، مارس 2021.(https://cutt.ly/qzC1SOU).

[24]– انظر: الصحراء، “قطاعات حكومية ومؤسسات وطنية تنخرط في عملية تنزيل ورش الحماية الاجتماعية”، فبراير 2021، (https://assahraa.ma/web/2021/153839)

[25]– انظر جريدة الاقتصادية، “المجلس العلمي الأعلى يصف صاحب فتوى زواج القاصرات بأنه فتان وضال”، ماي 2009. (https://www.aleqt.com/2009/05/01/article_156052.html).

[26]– انظر: الحسن أبو يحيى، “تدخل ملكي يحسم جدل الإجهاض بالمغرب”، موقع الجزيرة، ماي 2015. (https://cutt.ly/fzC2jB3).

[27]الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب. مذكرة موجهة للجنة الاستشارية لمراجعة الدستور. (https://cutt.ly/EzC2Ily)

[28]– منتدى الزهراء للمرأة المغربية. مذكرة منتدى الزهراء للمرأة المغربية حول التعديلات الدستورية (https://cutt.ly/VzC2GYd)

[29]– هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز. منهجية إعداد مشروع القانون ومسار التشاور. (https://cutt.ly/RzC2VcY)

[30]– رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في مشروع القانون رقم 78.14 المتعلق بالمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة (https://cutt.ly/wzC22hc)

[31]– الدستور المغربي https://www.constituteproject.org/constitution/Morocco_2011.pdf?lang=ar

[32]– بهذا الخصوص يمكن مراجعة مقال: Ilyass Bouzghaia “Whose Gender Equality? On the Boundaries of Islam and Feminism in the MENA Region” in Double-Edged Politicson Women’s Rights in the MENA Region, ed.  H. Darhour and D. Dahlerup (Gender and Politics Series, Palgrave Macmillan. Switzerland AG, 2020), pp 71-93.

[33]– اعتقلت الصحفية هاجر الريسوني عام 2019 وحكم عليها بالسجن لمدة سنة بتهمة الإجهاض غير القانوني وممارسة الجنس خارج نطاق الزواج. وقد عرفت قضيتها تضامنا واسعا على اعتبار أن دوافع اعتقالها سياسية بحكم عملها في جريدة معروفة بانتقادها للدولة وعمها أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، معروف ببعض مواقفه المخالفة لتوجه الدولة

[34] – انظر بلاغ وزارة العدل بهذا الخصوص: (https://cutt.ly/kvCZ5bd)

[35]– محمد مصباح، ” هل يعتبر العفو على هاجر الريسوني مجرد تكتيك سياسي؟”، المعهد المغربي لتحليل السياسات، نوفمبر 2019.

[36]– للمزيد حول مفهوم “الطريق الثالثّ” وتأثيره على المجال النسائي في العالم الإسلامي يمكن مراجعة مقال  Gender Relations and Social Values in Morocco Prospects of “Third way” Islamic Feminism. متوفر على الرابط: https://www.academia.edu/35506610/Gender_Relations_and_Social_Values_in_Morocco_Prospects_of_Third_way_Islamic_feminism_after_the_Arab_Spring_:

[37]– ZakiaSalime. “The War on Terrorism: Appropriation and Subversion by Moroccan Women”. SIGNS v33n1. 2007

[38]– Souad Eddouada and Renata Pepicelli, Morocco: Towards an Islamic State Feminism. Publication. SciencePO, 2012. Web. <http://www.sciencespo.fr/ceri/sites/sciencespo.fr.ceri/files/ci_feminism_iran_se_rp.pdf>. 2012.

[39]– Tripp Aili. Seeking Legitimacy: Why Arab Autocracies Adopt Women’s Rights. Cambridge University Press. 2019.

[40]– مقابلة أجراها الباحث مع أسماء المرابط. يوم 01 غشت 2017. الرباط

[41]– Doris Gray and Habiba Boumlik, “Morocco’s Islamic Feminism”, in D. Gray & N. Sonneveld (Eds.), Women and Social Change in North Africa: What Counts as Revolutionary? 119-142, (Cambridge: Cambridge University Press, 2018),[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

إلياس بوزغاية

إلياس بوزغاية

باحث بمركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام التابع للرابطة المحمدية للعلماء. حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوع الأسرة المغربية، المساواة بين الجنسين، والحركات النسائية بالمغرب. نشر أطروحة تخرجه من الماستر سنة 2012 بعنوان "الحركة النسائية والتغيير الاجتماعي في المغرب: تيارات وتأثيرات". من مجالات اهتمامه: حقوق المرأة، دراسات النوع الاجتماعي، النسائية والنسائية الإسلامية، دراسات مناهضة الاستعمار، التحولات الاجتماعية والقيمية بالمغرب. وقد كتب عدة دراسات وأبحاث بالإنجليزية والعربية وشارك في العديد من المؤتمرات الوطنية والدولية، كما له تجربة في تدريس اللغة الإنجليزية بالرباط.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *