على المدى القصير، تحقق الديمقراطية التشاركية المعتمدة في صياغة النموذج التنموي الجديد السلم الاجتماعي، بالنظر إلى وظيفتها الإدماجية، لكنها غير قادرة على ضمانه على المدى البعيد، حيث يبقى ذلك رهينا بالتنمية الاقتصادية وجودة المؤسسات الديمقراطية.
تحميل المقال
ملخص تنفيذي
قامت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي بإجراء جلسات إنصات ومشاورات واسعة مع المواطنين المغاربة والفاعلين، بهدف صياغة نموذج تنموي جديد للمملكة. وتمكن هذه الجلسات، كآلية للديمقراطية التشاركية، من تحقيق السلم الاجتماعي، بالنظر إلى دمجها لآراء ومقترحات المواطنين في صنع السياسة التنموية الجديدة، لكنها تظل غير قادرة على ضمان السلم الاجتماعي على المدى البعيد، والذي يتطلب التنمية الاقتصادية لتلبية الحاجيات السوسيو-اقتصادية للمواطنين.
مقدمة
يوم 25 ماي 2021، ترأس الملك محمد السادس، بالقصر الملكي بفاس، مراسيم تقديم التقرير العام الذي أعدته اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي[1]. وهو عبارة عن توجهات أساسية لإحداث تحول في التصور العام للتنمية بالمغرب في أفق سنة [2]2035. حيث يرتكز النموذج التنموي الجديد على أربعة محاور رئيسية استراتيجية للتحول، تشمل تطوير الاقتصاد إلى اقتصاد تنافسي ومتنوع، إلى جانب تعزيز الرأسمال البشري، ومساهمة المواطنين في التنمية، ثم تعزيز مكانة المجالات الترابية في صلب العملية التنموية[3]. ولتتبع تفعيل هذه الرؤية التنموية الجديدة، اقترحت اللجنة آليتين، تتضمن الآلية الأولى، ترجمة النموذج التنموي الجديد في صيغة “ميثاق وطني من أجل التنمية”، من أجل ترسيخه كمرجعية مشتركة للفاعلين،وحث جميع القوى الحية على إنجازه، وتتمثل الآلية الثانية، في تتبعه وتحفيز الأوراش الاستراتيجية ودعم إدارة التغيير. مما سيمكن الفاعلين المعنيين من تحمل المسؤولية وتقوية حسن الأداء العام [4].
تم اقتراح هذه التوجهات بناءا على تشخيص لجنة النموذج التنموي للوضعية الراهنة[5]، معتمدة على منهجية المشاورة والإنصات، وفق مقاربة تشاركية، يتم فيها لأول مرة، الإنصات إلى آراء، ومقترحات المواطنين. في هذا السياق، أطلقت اللجنة يوم 2 يناير 2020، جلسات استماع عمومية واسعة على المؤسسات، والأحزاب، والنقابات، والقطاع الخاص، والجمعيات، بهدف جمع مساهماتهم وآرائهم. كما قامت بتنظيم مجموعة من الزيارات الميدانية إلى عدد من المناطق، والقرى، تم خلالها الإنصات للساكنة المحلية والاستماع لتصور المواطنين للنموذج التنموي ولمشاكلهم، والوقوف على انتظاراتهم.
إن هذه المشاورات، بما تحمله من دلالات سياسية، ونفسية- اجتماعية عميقة، تعد آلية سياسية متقدمة للحكم التشاركي، تعطي الشرعية للسياسة التنموية الجديدة، وتمكن المغرب من تجنب احتجاجات القرى، والمدن الصغيرة، والفئة العريضة من المواطنين التي تتواجد على هامش التنمية.
فهل ستضمن الديمقراطية التشاركية السلم الاجتماعي على المدى البعيد؟
تجادل هذه الورقة في مدى قدرة الديمقراطية التشاركية على ضمان السلم الاجتماعي على المدى البعيد في المغرب، فرغم ما تحققه من وظائف إدماجية، عبر جعل السياسات العمومية تلبي مطالب الساكنة، على خلاف النموذج التنموي القديم، سيما في ظل ضعف الثقة في السياسات، والمؤسسات السياسية المنتخبة، يظل السلم الاجتماعي رهينا بتحسين الوضع الاقتصادي، بالنظر إلى ثلاثة اعتبارات أساسية:
– حدود الديمقراطية التشاركية في ضمان السلم الاجتماعي على المدى البعيد، والذي يتطلب النمو الاقتصادي، باعتبار أن فشل التنمية الاقتصادية في المغرب في النموذج التنموي القديم، والذي تسبب في موجات من الاحتجاج الاجتماعي، لا يُعزى فقط إلى ضعف الديمقراطية التشاركية، بقدر ما يرجع، في جانب مهم،إلى وضع الاقتصاد المغربي، حيث عجز بعض السياسات الاقتصادية عن تحقيق النمو الاقتصادي.
– أبرز تعامل السلطات مع الاحتجاج المحلي، سيما بمنطقة الريف والجنوب الشرقي، توظيف التنمية أحيانا،حفاظا على السلم الاجتماعي، أنه رهين بتحقيق التنمية الاقتصادية.
– حاجيات، ومقترحات المواطنين خلال جلسات الإنصات والمشاورة، والتي توضح ثلاثة مؤشرات تبرز أهمية البعد السوسيو-اقتصادي في انتظارات وتطلعات المواطنين والفاعلين
في أهمية الديمقراطية التشاركية
رغم ما تحققه الديمقراطية التشاركية من وظائف إدماجية، يظل السلم الاجتماعي رهينا بالنمو الاقتصادي. على خلاف النموذج التنموي القديم، أبرزت جلسات الإنصات، أهمية الديمقراطية التشاركية في الحفاظ على السلم الاجتماعي، عبر الانفتاح على آراء المواطنين في صنع السياسات. إذ تعين على اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، وفقا للتوجيهات الملكية، نهج مقاربة تشاركية والالتزام بالحياد والموضوعية في تفاعلها مع كافة الأطراف(المؤسسات السياسية، الفاعلين الاقتصاديين والمواطنين،..)، حيث قامت بصياغة ميثاق أخلاقي يتضمن الالتزام خلال جلسات الاستماع بالحياد وبالانفتاح وبعدم إبداء أحكام مسبقة أو مواقف تجاه الجهات المستمع لها.
في ظل هذه المقاربة التشاركية، تواصلت اللجنة، بشكل مباشر، مع المواطنين، معتبرة أن الأفكار التي تأتي من القاعدة تكون حاملة لنظرة قريبة من هموم المجتمع، والمشاكل التي يعيشها[6]. كما انفتحت اللجنة، عبر خلق فضاء للحوار والنقاش، على الأحزاب السياسية، والنقابات، والمجتمع المدني، والمؤسسات الدستورية، والمواطنين بهدف دراسة مشاكلهم، وأفكارهم، ومقترحاتهم للخروج بنموذج تنموي يتملكه جميع المغاربة[7]. أيضا، التقت اللجنة الفاعلين المحليين، من أجل مدارسة الإشكاليات المتعلقة بموضوع التنمية ومحاولة التفكير بشكل جماعي عن حلول مشتركة تلبي حاجيات السكان. كما استضافت النشطاء الفيسبوكيين، وعقدت جلسة استماع بباريس مع مغاربة من الجالية المقيمة في فرنسا[8].
اجمالا، تفاعل أكثر من 9.700 شخص بصفة مباشرة مع اللجنة، 1600 من خلال جلسات الإنصات والاستماع وأكثر من 8000 عبر آليات مشاورة موسعة. كما توصلت اللجنة بأكثر من 6.600 مساهمة مكتوبة، منها 270 مقدمة مباشرة و2530 بواسطة المنصة الرقمية، و3800 مندرجة في إطار دعوات المساهمة الموجهة إلى التلاميذ والطلبة ونزلاء المؤسسات السجنية[9]. كما تمكنت اللجنة من التفاعل مع أكثر من ثلاثة ملايين شخص من خلال وسائل التواصل الاجتماعي[10]. في أبريل 2020، ومع بداية جائحة كوفيد19، وتماشيا مع التدابير الاحترازية والوقائية التي اتخذتها الحكومة لتفادي تفشي الفيروس، تم تأسيس منصة رقمية لتلقي وتجميع مختلف المساهمات والأفكار التي يتقدم بها المواطنون من داخل المغرب وخارجه من أجل إغناء النقاش العام[11]. كما صرح رئيس اللجنة أنه لا يمكن الخروج بنموذج تنموي مشترك إلا إذا كان مبنيا على التواصل والاستماع لكل الآراء والتوصل بالاقتراحات[12]. وطيلة جلسات الاستماع العمومية، تم التأكيد على أن حاجيات ومطالب الساكنة المعبر عنها سيتم تلبيتها.
في هذا السياق، تقوم المقاربة الجديدة التي تعتمد على مبدأ الديمقراطية التشاركية بثلاثة وظائف إدماجية.
1. مد جسور ثقة المواطنين في السياسات العمومية، بحكم أنها تعبر عن آرائهم، وباعتبار أن هذا المشروع تشرف عليه السلطات، حيث يعطيها المغاربة الكثير من الثقة، باعتبار تعزيز اعتقادهم بالديمقراطية الوصائية[13]، وبالدور الوصائي للدولة كدولة حارسة، لكونها الأنجع في الاستجابة لمطالبهم وانشغالاتهم الحقيقية، وفي التعبير عن آرائهم إزاء ضعف ثقتهم في المؤسسات السياسية المنتخبة؛ ما يجعل من هذا المشروع وقاية مما قد يخلقه رفض واحتجاج المواطنين على السياسات بسبب ضعف ثقتهم في المؤسسات السياسية المنتخبة، حيث ارتفاع نسبة المواطنين الذين قاموا بتقييم السياسات الاجتماعية بالمغرب بشكل سيء خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب ارتفاع نسبة الرافضين للسياسات الاقتصادية[14]، وأصحاب التقييم السلبي لأداء الحكومات وللخدمات الأساسية[15]، والارتفاع في نسبة المغاربة الذين قالوا أن هذه السياسات لا تعبر عن آراء المواطنين في المغرب[16]. حيث أكد تقرير المؤشر العربي، لسنة 2017- 2018، أن “عدم المبادرة بصوغ سياسات تقنع المواطنين بارتفاع استقامة أداء الحكومات، وتعبيرها عن آراء المواطنين، وتحقيقها مبدأ العدل والمساواة- أي سياسات وإجراءات تساهم في إعادة مد جسور الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة- سيساهم حتما في فقدان الدولة شرعيتها في المنطقة”[17].
2. جعل السياسات العمومية تلبي مطالب الساكنة، سيما في أوساط الشباب، الذي يعيش حالة غضب إزاء نقص الفرص الاقتصادیة والسیاسیة[18]. وتحقيق السلم الاجتماعي على المستوى المحلي، عبر تراجع موجات الاحتجاج المحلي في القرى، والمدن الصغيرة المطالبة برفع التهميش الاقتصادي، وتوفير الخدمات الأساسية، والبنيات التحتية، وذلك عندما تصاغ حاجياتها، وانتظاراتها على شكل سياسات، على خلاف ضعف المقاربة التشاركية في ظل النموذج التنموي القديم المعتمد على التنمية من أعلى، حيث طرح إشكالية السلم الاجتماعي بشكل بارز خلال العقد الأخير وارتفعت نسب المشاركين في التظاهرات والمسيرات[19].
3. باعتبار تراجع مقاربة الحوار والتفاوض في تدبير الاحتجاج خلال السنوات الأخيرة، إزاء المقاربة الأمنية، وما نماه من مشاعر القهر، وكتمان الغضب، وبسبب الخوف من التعبير عن السخط الاجتماعي في الفضاءات العمومية واللجوء إلى النشاط النضالي على الأنترنيت، تعد جلسات الاستماع بمثابة هامش نفسي- اجتماعي جماعي للتحرر من مشاعر الظلم، والسخط الاجتماعي، وتغذي الأمل في نفوس المغاربة حول مشروع تشرف عليه السلطات.
لذلك، يشكل تطبيق الحكم التشاركي استنادا إلى دستور 2011، فرصة لصانعي القرار لتوطيد السلم الاجتماعي. إذ توفر لهم المرحلة الحالية فرصة للاستفادة من الأخطاء التي عرفها العقدان الأخيران، عبر اتباع مقاربة من أعلى إلى أسفل للتنمية والتي لم تقم سوى بتأجيج الاحتجاجات في الشارع[20]. فرغم مرور عقدين من الوعود والمشاريع- وكنتيجة لمقاربة من أعلى إلى أسفل- فإن ترتيب المغرب في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة بالكاد يتزحزح، في حين ما زالت المناطق القروية والمهمشة تعاني من قلة النمو في الوقت الذي أصبح فيه المغاربة محبطين بسبب عقود من الوعود وضآلة التقدم ومستعدون بشكل متزايد للتوجه إلى الشارع للتعبير عن هذا الإحباط[21].
لقد ساهم ضعف المقاربة التشاركية جزئيا في هذا الفشل. إذ “لا يملك المواطنون الشروط والوسائل التي تؤهلهم للمساهمة الفعلية في التنمية، حيث يعتبر المواطن فاعلا في مسلسل التنمية ومستفيدا منها في نفس الوقت. لذلك، فإن أوجه القصور المسجلة في مجال تنمية وتعزيز قدرات المواطنين، تشكل في الآن ذاته نتيجة مباشرة وسببا عميقا، في الانحسار الذي يشهده النموذج التنموي الحالي”[22].
بالموازاة، اعتبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أن اللجان المحلية للتنمية البشرية لا تتمتع بأي سلطة تقريرية، وأن المشاركة لم تبلغ بعد المستوى اللائق، فنوعية التشخيصات التشاركية والمبادرات المحلية للتنمية البشرية شديدة التفاوت، ولا يفي تواصل القرب دائما بطريقة مرضية بقواعد المشاركة، إذ لم يتم تفعيل أنظمة المتابعة والتقييم التشاركية وآليات الانتصاف (تدبير الشكاوى). كما تتفاوت نوعية المشاركة داخل اللجان تفاوتا كبيرا، وتعتبر استدامة العديد من المشاريع هشة بل ومهددة، ولا تزال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى الآن برنامجا إضافيا للحد من الفقر والإقصاء، يخضع لتدبير وزارة الداخلية، ويعمل خارج نطاق باقي السياسات القطاعية[23].
إخفاقات النموذج الاقتصادي القديم
يُعزى فشل النموذج التنموي القديم في جانب مهم، إلى عجز بعض السياسات الاقتصادية لما بعد الاستقلال عن تحقيق النمو الاقتصادي. فبحسب الباحث الاقتصادي نجيب أقصبي، الصورة التي يبدو عليها الاقتصاد المغربي اليوم هي وليدة خيارات ما بعد الاستقلال، حيث شكل ضعف اهتمام المغرب بالصناعة أحد أسباب ضعف التنمية، إذ لم يتطور الاهتمام بالصناعة “الخفيفة” إلا في السبعينات[24]. كما لم يحدث منعطف كبير في خيارات ما بعد الاستقلال، والتي استمرت إلى الوقت الحالي، والمتمثلة في نموذج تنموي ليبرالي يرتكز على القطاع الخاص والانفتاح على السوق العالمية[25]. لكن، فشل عدد من عمليات الخوصصة، والتي لجأ إليها المغرب في بداية التسعينيات[26]لسد عجز الميزانية، عبر بيع مجموعة من المقاولات، مما تسبب في خسائر كبيرة للدولة[27]. كما لم تؤدي الشراكة بين القطاعين العام والخاص، كطريقة جديدة لتدبير التمويلات العمومية، وكبديل عن اللجوء المتكرر للاقتراض العمومي لتمويل الاستثمار، إلى تقسيم عادل للتكاليف، فبينما يواصل القطاع العام تحمل القسم الأساسي من التكاليف، يعمل القطاع الخاص على تخفيض تكلفته، وجني الأرباح[28]. والصيغة الأكثر انتشارا لهذه الشراكة هي التدبير المفوض لتدبير خدمة الماء والكهرباء والتطهير والنقل العمومي وجمع النفايات. عملت هذه الشراكة، إلى جانب الخوصصة، حسب الحالات أو الظروف، على تزويد الدولة بموارد مالية، ومكنتها من اقتصاد نفقات أو تحمل نفقات أخرى، وأحيان أخرى، تسببت لها في ضياع إمكانيات تحصيل موارد، كانت عواقبها وخيمة[29].
كما ساهمت اتفاقيات التبادل الحر[30] في تعميق العجز التجاري، فخلال السنوات الأخيرة، بلغ عجز الميزان التجاري في المتوسط، حوالي 21 % من الناتج الداخلي الإجمالي، وتقدر مساهمة هذه الاتفاقيات في هذا العجز بالثلث، كما مكنت اقتصاديات شركاء المغرب من الاستفادة منها أكثر مما استفاد منها الاقتصاد المغربي[31]. حيث اعتبر تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة 2014، أن “الملاحظة الموضوعية لعدد من المؤشرات، تبين أن طريقة تنفيذ سياسة الانفتاح الاقتصادي بحاجة إلى مراجعة وتقويم وتحسين، لما فيه مصلحة البلاد”[32].
ورغم انفتاح الاقتصاد المغربي على الاقتصاد العالمي بشكل واسع، إذ ارتفعت النسبة المتوسطة لهذا الانفتاح بين (1990- 1994) و (2011- 2015)، من 52,1% إلى 81,2%، لكن ذلك يعود في ثلثيه تقريبا إلى الواردات، وبصورة أقل عبر الصادرات أو تدفق الرساميل أو الاستثمارات المباشرة. مما أدى إلى ارتفاع “نسبة النفاذ” للاقتصاد المغربي من 27,3% إلى 41,5% بين المرحلتين، ونتيجة لذلك، تفاقم عجز الميزان التجاري بشكل ملحوظ، حيث بلغ في المتوسط 20,9% من الناتج الداخلي الإجمالي بين 2011 و[33]2015.
خلال العقدين الماضيين، كانت مساهمة رصيد التجارة الخارجية في نمو الناتج الداخلي الإجمالي سلبية عموما، مع بعض الاستثناءات النادرة[34]، حيث عجزت عن تحقيق نمو اقتصادي. ويتركز جزاء من هذا العجز في الاستدانة العمومية، التي بعد انخفاضها في التسعينات وبداية الألفية الثالثة، استعادت منحاها التصاعدي وبوثيرة كبيرة، إذ بين 2007 و2015، تضاعف دين الخزينة العامة تقريبا، وارتفع الدين العمومي إلى أزيد من الضعف. وبالمقارنة مع الناتج الداخلي الإجمالي، خلال نفس الفترة، ارتفع الدين العمومي ب 20 نقطة[35]، ورغم ارتفاع نسبة الاستثمار بشكل ملحوظ، فإنه لم يؤد إلى ارتفاع نسبة النمو وإلى خلق المزيد من مناصب الشغل[36].
ولحد الآن، لم يتمكن الاقتصاد المغربي من حل معضلة الفوارق الاجتماعية، حيث عرف المغرب تقدما ملحوظا على مستوى البنيات التحتية الكبرى، التي تم إنجازها، بتوفره على أكبر ميناء بحوض المتوسط، وعلى أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم والطريق السيار، من أكادير إلى طنجة، ومن الجديدة إلى وجدة. وعلى المستوى الاقتصادي، عرفت نسبة النمو ارتفاعا ملحوظا، بفضل اعتماد مخططات قطاعية، كمخطط المغرب الأخضر، ومخطط الإقلاع الصناعي، وغيرها. ورغم ذلك، فإن هذا التقدم لم يكن على حساب النهوض بالتنمية البشرية، ولم يكن له أثر مباشر على تحسين ظروف عيش جميع المغاربة،حيث لا يستفيد جميع المواطنين من الثروة، واستمرار مظاهر الفقر و الهشاشة، وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة[37] .
كما كان لسياسة الحد من عجز الميزانية والتي انخرط فيها المغرب منذ سنوات بهدف “مواصلة تقليص عجز الخزينة حتى لا يتجاوز 3% من الناتج الداخلي الإجمالي، عبر ترشيد الإنفاق وتوطيد الموارد العمومية[38] أثر على تنامي الحركات الاجتماعية ورهاناتها السوسيو-اقتصادية. ورغم أن هذه السياسة تسمح بالرفع من فعالية الاقتصاد والمساهمة في تحقيق عملية نمو مستدام على المدى المتوسط[39]، فإنها لم تكن قادرة على إنعاش الاقتصاد الوطني، ولم تحدث أية قطيعة في مستوى تطور النمو الاقتصادي في المغرب خلال السنوات الأخيرة[40]، بل أدت إلى انخفاض الطلب المحلي واستهلاك الأسر وخسائر في الثروة، وإلى الانكماش النقدي[41]. حيث يُرجح أن التقشف قد ساهم في تدهور دخل الأسر، التي تأثرت على نحو مضاعف، بسبب الآثار الضارة المرتبطة بالتقويمات غير الملائمة التي طالت الميزانية(تخفيض التوظيف في الوظيفة العمومية، والحد من ميزانيتي التعليم والصحة)، إلى جانب عبئ الضرائب على الدخل التي انتقلت من 2,8% في عام 1998، إلى 4,5% من الناتج الداخلي الإجمالي في عام 2007[42] ، مما أدى إلى تنامي موجات الاحتجاج الاجتماعي.
الإحتجاجات كثمن لفشل السياسات الإقتصادية
ارتفعت الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير منذ سنة 2005، بسبب ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، بدءا بظهور تنسيقية مناهضة الغلاء وتدهور الخدمات العمومية سنة 2006، ضد رفع الأسعار من طرف الشركات الفرنسية متعددة الجنسيات، المسؤولة عن توزيع المياه والكهرباء وإدارة مياه الصرف الصحي في الدار البيضاء(السويس) والرباط وطنجة وتطوان(فيوليا)، وتدهور الخدمات العامة، وخوصصتها[43]. كما ساهم التقشف، في احتجاجات المدن الصغرى بفعل تعطيله لجهود التنمية، بحيث تجري الأفعال الاحتجاجية الجماعية ضد تھمیش المناطق والجھات، وضد نقص تجھیزات البنیات التحتیة، بقیادة مجموع الفاعلین الجمعویین، والسیاسیین، والنقابیین. وتحشد التعبئة الاجتماعیة أكبر عدد من السكان في المدن الصغرى، وفي الوسط القروي كنتیجة غیر مرغوبة للسیاسة العمومیة المتبعة الواسعة النطاق[44]. ففي سبتمبر 2006، نمت احتجاجات عفوية ومؤقتة في بوعرفة للتنديد بارتفاع الأسعار، كما احتج العاطلون عن العمل في نفس السنة. وفي صفرو، نظمت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان اعتصاما في 23 سبتمبر 2007، بسبب الارتفاع في سعر الخبز المدعوم[45].
كما فشلت بعض مشاريع التنمية في تحقيق أهدافها أو تأخرت عملية تنفيذها، وساهم بعضها في تعزيز عدم المساواة الاجتماعية، وتأجيج السخط الاجتماعي بسبب تدابير التقشف التي أدخلت بعد 2011، منها تخفيض النفقات العمومية من خلال خفض الدعم، والإصلاح التدريجي لنظام المعاشات التقاعدية، وخفض عدد الموظفين داخل مؤسسات الخدمة العامة[46].
منذ سنة 2011، برزت حركات الاحتجاج أكثر فأكثر في المناطق الهامشية. وفي سنة 2013، خرجت احتجاجات المغاربة في مدن عديدة إثر ارتفاع تكاليف المعيشة بعد الزيادة في أسعار الوقود. وفي سنة 2015، تظاهر سكان المدن الشمالية في طنجة وتطوان ومارتيل والمضيق ضد ارتفاع أسعار الماء والكهرباء. في نفس السنة،احتج طلبة الطب المتدربون ضد الخدمة الصحية الإجبارية، كإجراء تقشفي لتعويض نقص الأطباء في المستشفيات العامة[47]، كما نظم الأساتذة المتدربون حركة احتجاجية على المستوى الوطني. وفي خريف سنة 2016، شهدت مدينة الحسيمة حركة احتجاجية بعد حادثة مصرع بائع السمك محسن فكري، ما عزز الإحساس المتراكم باللامساواة والتهميش لدى ساكنة المنطقة لعدة سنوات.
وبعد تلبية مطالب الحركة، عبر التدخل من أجل تسريع وتيرة التنمية، توسعت دورة التعبئة إلى جزء كبير من المدن المغربية التي تعاني التهميش. وسنة 2017، تتابعت الاحتجاجات في منطقة الريف الشرقي والأوسط، وفي مناجم الفحم بمدينة جرادة، ثم ما سمي باحتجاجات العطش في زاكورة اعتراضا على النقص الحاد في المياه. وفي سنة 2018، ظهرت تنسيقية الأساتذة المتعاقدين للمطالبة بإدماجهم في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية. كما شهدت نفس السنة حملة مقاطعة عبر التعبئة على الأنترنيت، امتدت لأشهر على مستوى البلاد ضد منتجات مياه “سيدي علي” المعدنية و”دانون سونترال”، ومحطات وقود “أفريقيا”، للاحتجاج على ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانخفاض القوة الشرائية[48].
وسنة 2019، احتج جزء من ساكنة أحياء الصفيح في مدينة الدار البيضاء، كما ظهرت حركة تزنيت احتجاجا على التهميش الاقتصادي وتحسين الظروف الاجتماعية. وبدأت تعبئة العاطلين حاملي الشهادات على الموقع الاجتماعي الـ”فيسبوك”على المستوى المحلي، في جميع أنحاء المملكة، للمطالبة بالشغل القار، وتوسعت مواقعهم في الاحتجاج لتشمل المناطق المعزولة في القرى والدواوير . كما احتج الطلبة الأطباء. وفي زمن كوفيد19، لم تمنع الطوارئ الصحية، من الاحتجاج في الفضاء العمومي، حيث أبرز الوباء إلى السطح مختلف الهشاشات الاجتماعية.
كما كان للتقشف أثر على تدبير الاحتجاج الاجتماعي في المناطق المهمشة، والتي لها تاريخ طويل في الاحتجاج، حيث فرضت احتجاجاتها متلازمة التنمية الاقتصادية مقابل السلم الاجتماعي.
التنمية الاقتصادية حامي السلم الاجتماعي
أظهر احتجاج وتدبير بعض الحركات الاجتماعية على المستوى المحلي بالريف والجنوب، توظيف التنمية الاقتصادية للحفاظ على السلم الاجتماعي. فقد ارتبطت الحكرة والتهميش الذي عبأ حركة الريف، بإحساس مستمد من التاريخ السياسي للريف في علاقته بالسلطة المركزية. وهو تاريخ يبين وجود سبب رئيسي لهذا الإحساس، هو ضعف المصالحة مع السلطة المركزية[49]. حيث يعد تحقيق التنمية الاقتصادية كشرط للمصالحة مع الريف[50]، قبل أن تبرز في نهاية الحركة بعض المطالب الثقافية.
كما يكشف البحث السوسيولوجي حول عملية صناعة التنمية بمنطقة “كلميم وادنون” بالجنوب المغربي، أن الدينامية المحلية المكثفة التي خلقتها السياسات العمومية في تدبيرها للشأن التنموي بجماعة “أسرير” بالتحديد، ظلت واجهة سوسيو -اقتصادية، تخدم غايات أخرى ترتبط ببناء السلم الاجتماعي بالمنطقة باعتباره يظل الرهان المركزي الذي يحكم هذه السياسات[51]، سيما في ظل تراجع مقاربة القمع إلى الاحتواء الناعم، في ظل ازدياد هامش التعبير وارتفاع سقف المطالب واتساع مجالات ضغطها على السلطة المركزية، وهو ما يظهر عبر أشكال تدبيرها للشأن التنموي المحلي، وجعله أداة رئيسة للتفاوض مع المحتجين[52].
وبحكم تشكيل الحركات الاحتجاجية بالمنطقة مجالات للضغط،أصبحت السياسات العمومية تلبي مطالب المحتجين حرصا على السلم الاجتماعي، كما باتت تسير في اتجاه تبني أسلوب الضبط باعتماد المقاربة الاجتماعية ودعم الأنشطة المدرة للدخل عموما[53]، حيث منحت السلطات العمومية العديد من الامتيازات المادية وعملت على الاستجابة للعديد من المطالب كإنشاء المؤسسة التعليمية “بأسرير” المركز، أو المسارعة لاقتراح العديد من الحلول البديلة، من قبيل مواجهة احتجاجات أبناء دوار “آيت مسعود”بجماعة “أسرير”التي كانت تطالب بالحصول على بطاقات الإنعاش الوطني، باقتراح خلق تعاونيات ومشاريع ذاتية مدرة للدخل، تتعهد الدولة بدعمها لوجيستيكيا وماليا، إلخ[54].
كما عملت البرامج التنموية الفاعلة محليا على تجنيد قوى الشباب حملة الشهادات من أجل إدماجهم وتمكينهم من المساهمة في عملية التخطيط الجماعي، وذلك باعتبارهم رأسمالا مهما قادرا على تشكيل قطب كفاءات محلية تستطيع مرافقة باقي الساكنة من أجل تفعيل “المخطط الجماعي للتنمية”، وقد مكنت هذه التجربة الشباب المعني، لاحقا، من ولوج سوق الشغل، فمنهم من التحق بمكاتب دراسات، ومنهم من نجح في خلق مقاولته الخاصة، كما تمكن “برنامج الواحات” بجماعة “أسرير”، من “إدماج النشطاء، ليصبحوا اليوم فاعلين تنمويين”، ونجح في جعل محتجي الأمس ينصهرون بمختلف التجارب التعاونية ذات الهوية الإنتاجية المحلية، حيث الاستجابة تنمويا للحركات الاحتجاجية، ليصبح إدماج الشباب العاطل في المخططات التنموية شكلا من أشكال الضبط والتحكم في واحد من أهم ديناموهات الحركات الاحتجاجية بالمنطقة[55].
ماذا يريد المواطنون؟ أهمية التنمية الاقتصادية والحاجة إلى تجديد العقد الاجتماعي
توضح انتظارات وتطلعات المواطنين والفاعلين خلال جلسات الإنصات والزيارات الميدانية التي نظمتها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، أهمية البعد السوسيو-اقتصادي للتنمية، وهو ما يبرز عبر ثلاثة مؤشرات رئيسية:
– يرتبط المؤشر الأول، بتصور المغاربة للتنمية في إطار ما هو اقتصادي اجتماعي، يرمي إلى تحسين ظروفهم الاجتماعية، وهو ما توضحه الانتظارات السوسيو-اقتصادية التي عبر عنها أغلب المواطنين، والتي تشمل جودة الخدمات العمومية،والولوج إلى الفرص الاقتصادية والتشغيل،ثم ترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة. وتتبلور انتظاراتهم في أربعة مجالات رئيسية، تشمل التعليم،والصحة،والنقل، وفرص لتنمية القدرات الشخصية[56]. كما يتمثل الرهان الأساسي لباقي الانتظارات، في خلق الثروة وفرص الشغل، والتنمية. حيث أكد المقاولون في المجال الثقافي، على أن الثقافة يمكن أن تصبح قطاعا مهما لخلق فرص الشغل والثروة[57]. يعتبر المغاربة أن من بين الأولويات،الرفع من قدرة الاقتصاد على خلق المزيد من القيمة المضافة ومناصب الشغل. ويرغب المواطنون والفاعلون في أن يعزز المغرب قدرته على إنتاج المواد والخدمات الأساسية،وهو توجه برز بحدة خلال الأزمة الصحية كوفيد 19[58].
وتشكل الانتظارات السياسية للمواطنين في تصوراتهم، مدخلا أساسيا لتحقيق التنمية الاقتصادية. إذ عبر المواطنون عن رغبتهم في الحصول على المزيد من الفرص للمشاركة بشكل فعال في تنمية محيطهم، كما يدعون إلى المزيد من التشاور معهم وأخذ مقترحاتهم في الاعتبار خلال إعداد السياسات العمومية[59]، وإلى ترسيخ الحكامة، وضرورة الربط بين المسؤولية والمحاسبة، ويجمعون حول ضرورة الرفع من فعالية الإدارة لضمان الولوج المتكافئ إلى الموارد والفرص الاقتصادية. وتعتبر رقمنة الإدارة من لوازم استعادة الثقة مع المواطنين والفاعلين. بالإضافة إلى ذلك، يربط المواطنون صلة قوية بين التنمية واحترام الحريات السياسية وترسيخ سيادة القانون، ويطالبون بإشراكهم أكثر في صنع القرار[60].
– يرتبط المؤشر الثاني، بالإحساس بالتهميش الاجتماعي والمجالي، وتراجع القطاع العام والخدمات العمومية عن تحقيق الإدماج، وهو ما يبرز الرغبة في تجديد العقد الاجتماعي. حيث تتفق آراء المشاركين في المشاورات حول التقدم الحاصل في المغرب خلال العقدين الأخيرين والتي لم تمنع، من تعميق الفوارق وتدهور جودة الخدمات العمومية[61]. كما يغذي التوزيع غير المتكافئ للمجهود الإنمائي عبر التراب الوطني، الإحساس بالتعامل المتباين مع الساكنة ومع المجالات الترابية ويقوي الفجوة بين “من يتوفرون على كل شيء ومن لا يملكون أي شيء”. ويمثل التهميش الذي يطال بعض المناطق وإقصاء العالم القروي وإضعاف الطبقة الوسطى والإحساس السائد بركود الحركية الاجتماعية،المآخذ الأكثر ورودا في المشاورات. حيث تعاقبت خلال جلسات الإنصات المطالب حول الولوج المتكافئ إلى الخدمات العمومية. وتوجد قناعة مشتركة لدى المواطنين مفادها أن الإدارة والقطاعات العمومية والمرافق العامة،خاصة في مجالات التربية والتكوين والصحة،لم تعد تؤدي وظيفتها كآلية للإدماج،مولدة إحباطات عميقة ومغذية لأجواء أزمة الثقة في الفعل العمومي وإزاء الدولة[62].
– يرتبط المؤشر الثالث، برؤية المغاربة للمستقبل، المنحصرة في دائرة تحسين وضعهم السوسيو-اقتصادي في سياق يتسم بركود الحركية الاجتماعية، واتساع هوة الفوارق بفعل اندحار الطبقة المتوسطة، والقلق حيال هذا التراجع الاجتماعي في ظل ما تم تحقيقه من منجزات تنموية، فضلا عن الإحساس بعدم التكافؤ بفعل ضعف عدالة التوزيع في النموذج التنموي الحالي. وهو ما يبرز الدور المحوري لتنمية الاقتصاد في الحفاظ على السلم الاجتماعي على المدى البعيد. في هذا السياق، أبرزت المشاورات بعض المخاوف بشأن المستقبل نابعة أساسا من الإحساس بتعطل آليات الارتقاء الاجتماعي وتلاشي الثقة في قدرة المؤسسات العمومية على السهر على الصالح العام[63]. حيث عبر جميع المشاركين، عن قلقهم إزاء هذه الحالة،مركزين بشدة على ضعف الإدماج الذي يتميز به النموذج الحالي، والمتمثل في تعميق الفوارق ومخاطر التراجع الاجتماعي للطبقة الوسطى، إلى جانب أزمة الثقة إزاء الفعل العمومي، والنخب السياسية والاقتصادية،والفئات الاجتماعية الميسورة، والتي ينظر إليها من زاوية استفادتها من امتيازات غير مشروعة، وأنها غير حريصة على المصلحة العامة. ويأسف أغلب المواطنين الذين تمت استشارتهم لغياب آليات التقنين الفعلي للأنشطة الاقتصادية، وانعدام حد أدنى من الحماية الاجتماعية للجميع[64]. مكنت المشاورات أيضا، من رصد خيبة أمل عميقة أمام مغرب عرف إجمالا مسارا إيجابيا في مجال التنمية،لكن بقي دون استغلال أمثل لإمكاناته[65].
ومن الجدير بالملاحظة، ما أظهرته حاجيات المواطنين من ثقتهم في السلطات العامة وفي الدولة إزاء ضعف الثقة في السياسيين والمنتخبين، ففي الوقت الذي اشتكوا فيه من وجود شرخ بينهم وبين الإدارة العمومية وضعف ثقتهم في المنتخبين، شدد الجميع في اللقاءات التي عقدتها اللجنة على أهمية الرفع من مستوى الثقة في النفس أو البلد أو المستقبل[66]. كما ركز المشاركون على أهمية إنماء حس الارتباط بالوطن لدى المواطنين.
أبرزت الحاجيات السوسيو- اقتصادية للمواطنين، ومقترحاتهم، الرغبة في تجديد العقد الاجتماعي، عبر الثقة في السلطات العمومية في تلبية انتظاراتهم، وتلتقي تطلعاتهم مع عودة دولة الرعاية الاجتماعية، عبر توجه الدولة نحو التأسيس لعقد اجتماعي جديد مع القانون الإطار للحماية الاجتماعية، والتي دعا ملك البلاد إلى تعميمها على جميع المغاربة[67]، كما عبر عن حرصه على تلازم تحقيق التنمية الاقتصادية بالنهوض بالمجال الاجتماعي، وتحسين ظروف عيش المواطنين.
كما سلطت أزمة وباء كورونا الضوء على الحاجة الملحة إلى التوجه نحو عودة “دولة الرعاية الاجتماعية”، وذلك بالنظر لتفاقم الفوارق وتدهور الأوضاع الاجتماعية نتيجة التفاوتات في الولوج إلى التعليم في أوقات الأزمة وضعف الحماية الاجتماعية وهشاشة الولوج إلى حقوق الإنسان الأساسية[68]. إذ عملت لجنة النموذج التنموي على دمج “أثر وباء كورونا على المغرب” ضمن التصور الذي اشتغلت عليه. حيث المغرب مقبل على إعادة النظر كليا في إصلاح الدولة[69]. إذ كان لوباء كورونا انعكاسات على تصورات المواطنين وللأولويات وترتيبها[70].
خلاصة
من شأن الديمقراطية التشاركية، على المدى القصير، بالنظر إلى دمجها لآراء المواطنين في صنع السياسة التنموية الجديدة، أن تعيد ثقتهم في السياسات العمومية، وأن تقلص من فرص الاحتقان الاجتماعي. بينما يتطلب ضمان السلم الاجتماعي على المدى البعيد، تجويد المؤسسات الديمقراطية، وأساسا، رفع النمو الاقتصادي، وتجديد العقد الاجتماعي، باعتبار أن ضعف الديمقراطية التشاركية في النموذج التنموي القديم لا يعد بمثابة عامل حاسم في تعطيل جهود التنمية واندلاع موجات الاحتجاج الاجتماعي، والذي يُرجح بالأساس إلى عجز بعض السياسات عن تحقيق النمو الاقتصادي، وتراجع الدور الاجتماعي للدولة بفعل تدابير التقشف، مما أثر بشكل كبير على السلم الاجتماعي.
الهوامش
[1]– بلاغ الديوان الملكي، الثلاثاء 25 ماي 2021.
[2]– شكيب بنموسى، خلال ندوة صحافية نظمها يوم الثلاثاء بمقر أكاديمية المملكة في الرباط. في يوسف لخضر، الأربعاء 26 ماي 2021، بنموسى: تقرير النموذج التنموي يستشرف ازدهار البلاد وليس برنامجا حكوميا.
[3]– المملكة المغربية، النموذج التنموي الجديد، تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وتيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع، التقرير العام، اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، أبريل 2021.
[4]– نفسه، ص 145، و146.
[5]– عين الملك محمد السادس السيد شكيب بنموسى، رئيسا للجنة صياغة نموذج تنموي جديد، يوم 19 نونبر 2019. وتم إحداث اللجنة يوم 12 دجنبر 2019، استنادا إلى خطاب 13 أكتوبر 2017، والذي دعا فيه الملك إلى إعادة النظر في النموذج التنموي، وخطاب 12 أكتوبر 2018، والذي أعلن فيه الملك عن تكليف لجنة خاصة للنموذج التنموي، إلى جانب خطاب عيد العرش 29 يوليوز 2019، والذي ذكر فيه الملك انتظاراته من عمل اللجنة.
[6]– اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، اللقاءات المواطنة للجنة الخاصة بالنموذج التنموي خنيفرة، الجمعة 13 مارس 2020. شرح أحد أعضاء لجنة النموذج التنموي الذي افتتح اللقاء للإطار الذي تندرج فيه هذه اللقاءات، ص 2.
[7]– اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، اللقاءات المواطنة للجنة الخاصة بالنموذج التنموي مكناس، الخميس 5 مارس 2020. ص 2.
[8]– اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي: السيد بنموسى يبدأ بباريس سلسلة من جلسات الاستماع مع مغاربة العالم. الخميس 20 فبراير 2020.https://www.maroc.ma. . تم الدخول إلى الموقع بتاريخ 28 نونبر 2020.
[9]– النموذج التنموي الجديد، التقرير العام، اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، أبريل 2021. ص 19.
[10]– عرض شكيب بنموسى، رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، خلال مراسيم تقديم تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، 25 ماي 2021.
[11]– موقع اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي. https://www.csmd.ma. تاريخ الدخول للموقع 18/11 /2020.
[12]– عقدت أكثر من 40 لقاء..بنموسى يكشف عن حصيلة 50 يوما من عمل لجنته. https://2m.ma. تاريخ زيارة الموقع 28/11/2020
[13]-بالاستناد إلى بعض افتراضات عالم الاجتماع المغربي محمد الشرقاوي،لا يثق الرأي العام المغربي في المؤسسات السیاسیة لأنه قدیعتقدب”الدیمقراطیة الوصائیة”،أوبالدور الوصائي للدولة لذلك،فالمغاربة یعطون الشرعیة والثقة للمؤسسات السیادیة (مؤسسات الدولة)لكونھا ناجعة،ولایعطونھا للمؤسسات السیاسیة،لأنھا في اعتقادھم ھي مجرد،ما یسمیه الشرقاوي،مؤسسات تابعة،أوبمثابة “الدرع ”لسلطة علیا. أنظر:
Mohamed Cherkaoui , Esquisse d’un tableau sociologique du Maroc , p. 155-189 , inLE MAROC AU PRÉSENTD’une époque à l’autre, une société en mutation Baudouin Dupret, Zakaria Rhani, Assia Boutaleb et Jean-Noël Ferrié(dir.) Centre Jacques-Berque, Fondation du Roi Abdul-Aziz Al Saoud pour les Études Islamiques et les Sciences Humaines, 2015.
[14]– أنظر:
– مؤشر الثقة في المؤسسات 2020: البرلمان وما وراءه في المغرب، المعهد المغربي لتحليل السياسات. 2020 https://mipa.institute/8231.
– البارومتر العربي، الدورة الخامسة، التقرير القطري للمغرب، 2019.
[15]– المؤشر العربي، 2017- 2018، برنامج قياس الرأي العام العربي، أيار/مايو 2018، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018، صفحات 96- 97- 98.
[16]– حيثأفاد أقل من نصف المستجيبين (39%) من المغاربة أن سياسات بلدانهم الاقتصادية الداخلية تعبر عن آراء المواطنين(تقرير المؤشر العربي 2017- 2018، ص 89، و تُظهر المقارنة بحسب، المجتمعات المشمولة، بين استطلاع 2017/2018 واستطلاعات المؤشر السابقة أن هناك ارتفاعا في اتجاهات المستجيبين الذين قالوا إن سياسات بلدانهم الاقتصادية الداخلية لا تعبر عن آراء المواطنين في المغرب(تقرير المؤشر العربي، 2017- 2018، ص90). وهو ما تفيده اتجاهات المستجيبين الذين أفادوا أنها لا تعبر عن آراء المواطنين في استطلاع 2017-2018 مقارنة بنتائج استطلاعات 2016 و2015 و2014 و2012/2013 و2011.
[17]– نفسه، ص 111.
[18]– البارومتر العربي، الدورة الخامسة، التقرير القطري للمغرب، 2019.
[19]– المؤشر العربي، 2017- 2018، ص 213.
[20]– باتريك. س. سنايدر، المغرب بعد 20 فبراير: خمسة دروس للناشطين وصناع القرار.المعهد المغربي لتحليل السياسات، 23 فبراير 2020، تاريخ الاطلاع على المقال 18/11/2020.https://mipa.institute/7349
[21]– نفسه.
[22]– النموذج التنموي الجديد للمغرب، مساهمة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، 2019، ص 48.
[23]– المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية: تحليل وتوصيات، إحالة رقم 2/ 2013.ص 8- 10.
[24]– نجيب أقصبي، الاقتصاد السياسي والسياسات الاقتصادية بالمغرب، في الاقتصاد السياسي في المغرب، المجلة المغربية للعلوم السياسية والاجتماعية ، العدد 12، الجزء XVIII- دجنبر 2018، ص 49- 50.
[25]– نفسه، ص 45 .
[26]– نفسه، ص 55- 56
[27]– نفسه، ص 58.
[28]– نفسه، ص 61.
[29]– نفسه، ص 63.
[30]– نفسه، ص 91
[31]– نفسه، ص 92.
[32] – المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تجانس السياسات القطاعية واتفاقيات التبادل الحر: مرتكزات استراتيجية من أجل تنمية متواصلة ومستدامة، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة ذاتية رقم 16/ 2014، ص 37.
[33]– أقصبي، مرجع سابق، ص102.
[34]– نفسه.
[35] – نفسه، ص 103.
[36]– في دراسة للمندوبية السامية للتخطيط 2016، أقصبي، ص 90.
[37]– تساءل ملك البلاد في خطاب العرش 30 يوليوز 2014: “هل ما نراه من منجزات ومن مظاهر التقدم، قد أثر بالشكل المطلوب والمباشر على ظروف عيش المغاربة وهل المواطن المغربي كيفما كان مستواه المادي والاجتماعي، وأينما كان، في القرية أو في المدينة، يشعر بتحسن ملموس في حياته اليومية، بفضل هذه الأوراش والإصلاحات واعتمادا على الدراسات التي تبرز تطور ثروة المغرب، يضيف العاهل أتساءل باستغراب مع المغاربة: أين هي الثروة وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها همت بعض الفئات فقط؟ الجواب على هذه الأسئلة لا يتطلب تحليلا عميقا: إذا كان المغرب قد عرف تطورا ملموسا، فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين، ذلك أنني ألاحظ خلال جولاتي التفقدية، بعض مظاهر الفقر والهشاشة، وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة”.
[38]– المعطاوي بنداود، سياسة الانكماش المالي في المغرب (1993- 2014: الحالة الراهنة والآفاق المستقبلية، في الاقتصاد السياسي في المغرب، المجلة المغربية للعلوم السياسية والاجتماعية ، العدد 12، الجزء XVIII- دجنبر 2018، ص 305.
[39]– نفسه، ص 307.
[40]– نفسه،ص 318.
[41]– نفسه، ص 305.
[42]– نفسه،ص 319 .
[43]– Koenraad Bogaert (2015) The revolt of small towns: the meaning of Morocco’s history and the geography of social protests, Review of African Political Economy, 42:143, 124-140, DOI: 10.1080/03056244.2014.918536To link to this article: http://dx.doi.org/10.1080/03056244.2014.918536
[44]– عبد الرحمان رشيق، الحركات الاحتجاجية في المغرب من التمرد إلى التظاهر، ترجمة الحسين سحبان، ملتقى البدائل المغرب، مشروع: حريات التجمعات والتظاهرات بالمغرب، بدعم من الاتحاد الأوروبي، يناير 2014، ص 72، و73 .
[45]– -Koenraad Bogaert ,2015. Op. Cit.
[46]– الحركات الاجتماعية متعدية القوميات: الحالة المغربية، مرجع سابق، ص 8.
[47]– نفسه، ص 10- 12.
[48]– نفسه، ص 11.
[49]– Yousra Abourabi, La réapparition du drapeau de la République du Rif lors du printemps arabe au Maroc. p. 617-626, inLE MAROC AU PRÉSENT
D’une époque à l’autre, une société en mutation Baudouin Dupret, Zakaria Rhani, Assia Boutaleb et Jean-Noël Ferrié(dir.) Centre Jacques-Berque, Fondation du Roi Abdul-Aziz Al Saoud pour les Études Islamiques et les Sciences Humaines, 2015., https://books.openedition.org/cjb/1092
[50]– هذا ما بينه تصريح لناصر الزفزافي أحد قادة الاحتجاج، والذي اعتبر على أن “المصالحة الوطنية ينبغي أن تكون مع الريف عن طريق رفع الحصار وتنمية المنطقة اقتصاديا واجتماعيا، لأن الريف منكوب ومتضرر”( الموقع الإخباري لكم، 10 دیسمبر 2016. http://lakome2.com/mobile/mobile/politique/21249.html). تم الدخول إلى الموقع بتاريخ 16 أبريل 2021، على الساعة الخامسة بعد الزوال.
[51]– كوثر لبداوي، من الاحتجاجات إلى إيديولوجيا صناعة السلم الاجتماعي جنوب المغرب، المركز الديمقراطي العربي، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد التاسع حزيران- يونيو 2019، ص 77.
[52]– نفسه، ص 77 و 80.
[53]– نفسه، ص 86- 87.
[54] – نفسه، ص 88.
[55]– نفسه، ص 88- 89.
[56]– النموذج التنموي الجديد، التقرير العام، أبريل 2021، ص 35.
[57]– نفسه، ص 36.
[58]– نفسه، ص 37.
[59]– نفسه، ص 36.
[60]– نفسه، ص 37.
[61]– نفسه، ص 20.
[62]– نفسه، ص 20.
[63]– نفسه، ص19 .
[64]– نفسه، ص 19- 20.
[65]– نفسه، ص 21.
[66]– شكيب بنموسى يكشف معالم انتظارات المغاربة من النموذج التنموي. الثلاثاء 14 يوليوز 2020، فرنان محمد. Le site infohttps://ar.lesiteinfo.com/maroc/397504.html
[67]– في خطاب موجه إلى أعضاء البرلمان خلال افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية العاشرة، يوم الجمعة 09 أكتوبر 2020 انطلاقا من القصر الملكي بالرباط، حيث يرتكز هذا المشروع على أربعة مكونات أساسية: تعميم التغطية الصحية الإجبارية، في أجل أقصاه نهاية 2022، لصالح 22 مليون مستفيد إضافي من التأمين الأساسي على المرض، وتعميم التعويضات العائلية، لتشمل ما يقارب 7 ملايين طفل في سنة الدراسة، تستفيد منها ثلاثة ملايين أسرة، وتوسيع الانخراط في نظام التقاعد لنحو 5 ملايين من المغاربة الذين -يمارسون عملا، ولا يستفيدون من معاش، ثم تعميم الاستفادة من التأمين على التعويض عن فقدان الشغل بالنسبة للمغاربة الذين يتوفرون على عمل قار.
[68]– الانعكاسات الصحية والاقتصادية والاجتماعية لفيروس كورونا “كوفيد- 19” والسبل الممكنة لتجاوزها، تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إحالة رقم 28/2020، ص 15.
[69]– الطوزي، في لقاء صحافي منظم عن بعد، 14 يوليوز 2020، في هذه توجهات النموذج التنموي الذي تعده “لجنة بنموسى”، اليوم 24، 16- 07-2020.https://alyaoum24.com/1437779.html
[70]– شكيب بنموسى رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، في ندوة صحفية عن بعد، قدم فيها أهم معالم الحصيلة الأولية لعمل اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، شكيب بنموسى يكشف معالم انتظارات المغاربة من النموذج التنموي. الثلاثاء 14 يوليوز 2020، فرنان محمد، على موقع lesiteinfo. https://ar.lesiteinfo.com/maroc/397504.html .
نادية الباعون
باحثة حول موضوع الحركات الاجتماعية بالمغرب، متخصصة في الاحتجاج الاجتماعي. أنجزت عدة أبحاث حول حركة المعطلين حاملي الشهادات العليا، وحصلت على دكتوراه من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية التابعة لجامعة محمد الخامس أكدال بمدينة الرباط.